كيف نتعامل مع الإسلام السياسي؟
دلال البزري
لا يوجد طريقة محدّدة لمقاربة صعود ظاهرة الاسلام السياسي بعد الثورات. هناك مناوشات متنوّعة اللهجات والنبرة و”المنهج”؛ لكنها تبقى مناوشات، متفرقة، عشوائية، مزاجية، لحظوية… وهي لو جمعت كلها في سجل التاريخ، فسوف يكون الالتفات مركزاً على “خفّتها” و”لحظيتها”.
النكران اولا: وهو قليل الإنتشار في البلاد التي تحققت فيها الثورات، وقد لدغها الإسلاميون مبكراً. ولكن النكران ماثل أمامنا، أحيانا بقوة غير ملحوظة، في البلدان التي تتلقى ارتدادات هذه الثورات، ولم تكتمل فيها بعد. “كلا! الإسلاميون غير قابلين للتوسع…!” أو “نحن مجتمعات مختلفة، متعددة، علمانية، عقلانية…”. تلك هي الجمل التي تتكرر بأقلام وألسنة الثوار السوريين خصوصاً. بعضهم وصل بهم الأمر إلى التقليل من تطرف الإسلاميين أو مدح صفاتهم. ولكن بين الإنكار و”التقليل”، الهوة قليلة، ومحصلتها النهائية عدم النظر إلى تنامي الإسلام السياسي؛ الى درجة شجعت النظام السوري على تبنّي الخطاب “الجهادي” للمجموعات الاسلامية.
السخرية ثانياً: مع أنها مفيدة للصحة العقلية والجسدية، وممتعة للذهن، وذائعة، في شبكات التواصل خصوصاً، غير ان حدودها المعنوية ضيقة، وهي سيف ذو حدّين: إذا كان حدسها صحيحاً، يمكنها أن تضيء العقل بشعلة، سرعان ما يتفوق عليها الواقع… ما يخلق الحاجة الى السخرية الأكثر سواداً. وهذه الأخيرة طويلة الروح، قادرة على التعايش مع أعمق القيعان… في الفن الشيء نفسه، لو كان غير مفتعلا، مع إضافة قد يأتي بها: منها تلهّف الروح لبهجة، ارتفعت الحاجة اليها مع الأيام السوداء.
الإستفزاز ثالثاً: طبعاً يمكن الإعتراض، لأن أي إشارة يمكن أن تستفز الاسلامي: لا ننسى انه، أي الإسلامي، يقدّم نفسه على انه ناطق باسم الله، ويدين له الآخرون بالسمع والطاعة، كل الآخرين. لكن هناك استفزاز عياره ثقيل عليهم، مثل التعرّي على الشاشة أو عبر شبكات التواصل الافتراضي، ثم من بعدها في تظاهرة، أو السعي الى الإعلان عن الإلحاد أو الرقص كفعل إحتجاج على الاخوان… هذه المقاربة لها تأثير ايجابي على صاحبها (أو صاحبته)؛ تنشّطه، ترفع من معنوياته، تنعش فرديته، تسمّم خصمها، فتغضبه.
الإدانة رابعاً: وهذه الطريقة هي الأكثر شيوعاً: بين “كاذبون” التي نشرها شباب الثورة على أسوار القاهرة ولوحاتها الإعلانية، وبين السخط العارم من “الاخوان”، المفضي الى اشتباكات عنيفة… بين الإسلاميين وخصومهم، هناك مروحة واسعة من الشجب والتنديد بممارسات الاسلاميين، هي مثل الوصف لحوليات زمنهم: قراراتهم، سلوكياتهم، المناخات التي أحيوها… كلها يوميات سوف يلتهمها التاريخ عندما يعود الى تلك المرحلة الصاخبة، بصفتها لوحة انثروبولوجية.
مرفق بالإدانة، نظرية “المؤامرة” التي لابد منها، والقائلة بأن صعود الإسلام السياسي الى سدّة الحكم ما هو إلا تدبير غربي سرّي إمبريالي صهيوني يهدف الى إدخال المنطقة في عصور الظلام. بديهي أن هذه النظرية، أكثر من تخدم، النظام السوري واشباهه، المتشبّثين بأنقاضهم.
تفكيك الخطاب الإسلامي، خامساً: تفكيك الخطاب والسلوك السياسي، بهدف تبيان عدم ألوهيته، عدم صلاحيته، وقدرته على العودة بنا قروناً الى الوراء من الجهل والكراهية والبشاعة والتخلف. هذا الاشتغال رائج، بين المثقفين والكارهين للإسلامية السياسية. وهو بالتأكيد يرفع وعي قارئه درجات، لو كان لديه استعداد ايجابي كاف. أما القارىء “الخصم”، فسوف يقرأه كدليل على صحة نظريته عن “تغريب” ثقافتنا، وحاجتها الى “الدفاع عن هويتها”. أي، فالج لا تعالج…
الإلتفات الى الوجوه الاسلامية المتنورة، لدحض الاسلامية السياسية، سادساً؛ وهي بعيدة عن الفهم “الاخواني” أو “الجهادي” او “السلفي”؛ وغالبا ما تنقده. هذا يفتح نقاشاً كبيراً، قد يكون نافذة نحو تصور نوع من الاصلاح الديني…. على المدى الطويل طبعاً. لكن الآن، ما زلنا في مرحلة سيولة تسمح بكل أنواع الإنزلاقات السلطوية في مرحلة الصراع الشديد من أجلها، علمانيون كان اصحابها أم اسلاميين.
من ضمن الطريقة الأخيرة، هناك من يخلط بين الإستعانة بالوجوه المتنورة وبين المزايدة الدينية، على طريقة الحكم والمعارضة السابقين: في نقاشه مع الإسلامية السياسية، لا يبارح المرجعية الدينية. يستند الى آية كريمة أو حديث شريف ليثبت نظريته. غير منتبه الى انه في هذا المجال بالذات، الاسلاميون أكثر انسجاماَ منه مع انفسهم. أحد “المساجلين” للإسلامية وجد نفسه يقول، و”إستناداً الى كل المراجع”، ان السيدة عائشة إنما تزوجت الرسول وهي في الثامنة عشرة من العمر! وذلك رداً على الدستور المصري الاسلامي القادم الذي يسمح بتزويج البنت القاصر، “إستناداً”، أيضاً، على “كل المراجع” التي تؤكد بأن السيدة عائشة تزوجت وهي قاصر.
والأرجح ان صاحب هذا الاختراع التاريخي لزواج السيدة عائشة، واعتباره سلاحا ضد الاسلاميين، وضد دستورهم…. يأتي من حدس ومعرفة عميقين بأن المشكلة ليست “الأخْونة” و”التسلّف” فحسب؛ إنما أيضا في الدرجة التي بلغها المجتمع من تأسْلم. وقد عبّر متظاهرو المعارضة المصرية المحتجين على الاخوان، عن تمتعهم بهذين الحدس والمعرفة ذاتهما؛ وذلك عندما ركزوا على ان من بينهم محجبات ومنقبات، وانهم هم أيضا يصّلون، ويخرجون من المساجد، وان في صفوفهم رجال دين وان الدين الاخواني ليس هو الدين…
اذن، هناك أحزاب ومجموعات إسلام سياسي وهناك مجتمع متأسلم، جرّب هذه الاحزاب والمجموعات، أو هو في طريقه الى تجريبها. والنتيجة حتى الآن ليست مشجّعة، بل فاشلة. قد لا تستقر هذه الأحزاب والمجموعات الاسلامية على برّ، قد تتسبّب بمزيد من الفوضى والعنف والفشل. وهي بذلك سوف تزيد من حاجة المجتمع الى الدين. أي اننا قد نكون مقبلين على حالة دينية جديدة، أشدّ عشوائية ومرارة من تلك التي سبقت الثورات. حالة سوف تحول الأفراد الى كائنات ضعيفة، لا يد لها على مصيرها، قلقة، لا تستند الى حائط، ضائعة، لا تستطيع ان تخطط لأيامها التالية… ليس لها غير الله في صراعها الحاد هذا من أجل البقاء (“يا الله! ما النا غيرك يا الله”).
انها كائنات من دون أمل دنيوي. كل رجائها في الآخرة. أي انها لكي تبقى في هذه الدنيا، عليها ان تصيب في الآخرة. ولكي “تتعقلن”، تحتاج الى جرعات أمل، تحتاج الى من يصيغ لها أملاً دينوياً. لتكون قادرة على إقامة التوازن بين الدنيتين: ذاك العالم الذي نعيش فيه، والآخرة التي سوف ستستقبلنا الى الأبد. أما أن تكون الدنيا مثبطة لكافة العزائم، والآخرة هي الملاذ الأكيد، فمن شأنه أن يبقى على الأسلمة من دون الاسلاميين.
أن نسخر ونندّد ونرقص ونفكّك ونزايد… فهذا من بديهيات مواجهة اليأس، حصان طروادة الاسلاميين. ولكن نحتاج مع كل هذا الى أمل. كيف؟ أين؟ متى؟ لا وجود لخريطة الكنز السري. والأرجح أن لا يأتي بقرار أو يهبط كالوحي. انه سعي، سبيل جديد يُخترع، أملٌ بالامل. تلك هي الروح التي تحتاج اليها الثورات العربية الآن، قبل أن يهبط عليها شيطان الحروب الاهلية-الدينية، ويؤجل تحقيق ذاتها الى ما بعد عقود…
المستقبل