كيف يكتب الخائفون؟/ الياس خوري
لم تطرح ديمة ونوس على نفسها هذا السؤال، بل ذهبت في روايتها «الخائفون» (دار الآداب، بيروت، 2017) إلى الخوف تستنطقه، وتستمع إلى صوته المبحوح. انحنت الكلمات وتلعثمت، وهي ترسم لنا ظلال خوف يتشكل على صورة امرأتين: سليمى وسلمى.
الأولى تكتب حكايتها وهي ليست كاتبة، والثانية تنكتب في نص رواية كتبها نسيم. والمرأتان ظلان لامرأة واحدة. حكاياتهما تندغم، الأولى تروي عن والدها الطبيب الحموي الذي هرب من مدينته خوفاً، فالتصق به الخوف وحطم صورته، والثانية تنكتب في ظلال والدها المريض، الذي يموت وهي في الرابعة عشرة. والدان يغيبان خلف الخوف، وطبيب اسمه نسيم، لكنه يكتب روايات باسم مستعار، يشله الخوف عن احتضان خوف المرأتين، فيكون حبيباً لا يحضر إلا غائباً، وبديلاً عاجزاً لأب مفقود.
الرواية لا تكتب عن الخوف من السلطة او القمع فقط، بل تكتب عن خوف أكثر عمقاً، انه الخوف من الخوف. هكذا يقول نسيم، وهذا ما ترشح به كلمات جميع الشخصيات.
يخافون الخوف، ويعيشون خوفهم، يحبّون في الخوف فيأتي حبهم مبتوراً وناقصاً، وحين يروون حكاياتهم نكتشف انهم يروون حكاية واحدة، لأن كل حكايات السوريات والسوريين صارت متشابهة في مناخات الألم والأسى وإن اختلفت في تفاصيلها.
يتكلم الصمت في هذه الرواية، ولا يجد مكانه إلا في عيادة طبيب نفسي يدعى كميل، ابطال الرواية الثلاثة يتقاطعون في عيادة الطبيب الذي يجد نفسه عاجزاً عن علاجهم. يستطيع الطبيب النفسي معالجة افراد يعانون الكآبة لكنه لا يستطيع معالجة مجتمع بأكمله يعيش في الصمت.
في هذا المناخ الكئيب يتفتق الصمت عن حكاياته، وينشر الخوف صمته، وتبدأ حكايات المآسي التي صنعها الاستبداد في الظهور، من خلال مرآتين متوازيتين، تصنعان عالماً غرائبياً في واقعيته، يروي شذرات من قصة شعب تشقق الصمت فيه فصار ثورة، قبل أن تنفجر الثورة تحت ضغط آلة القمع الرهيبة، وتتشظى بعض ملامحها، من دون ان تنسى أنها ولدت كجواب طبيعي على إذلال شعب كامل طوال أكثر من أربعين سنة.
تتقاطع حكايات سلمى وسليمى في شخص نسيم، طبيب عصابي، استوطنه الخوف ودفع به إلى الهجرة، وكاتب خائف يستعير خوف حبيبته كي يغطي به خوفه. رجل يصير مرآة محطمة لامرأتين يحبهما معاً، الأولى حقيقة تكتب قصتها وقصته، وتروي عن شقيقها فؤاد الذي اختفى في المعتقلات، وعن تجربة مذبحة حماه كما تجسدت في والدها الطبيب، والثانية متخيلة، لكنها حقيقية ايضاً، تعكس الأولى من دون أن تكونها بالضبط.
وحين تقرر سليمى أن تجد غريمتها في بيروت وتعطيها موعداً في احد مقاهي الأشرفية، تصل إلى المكان، فترى سلمى عن بعد، لكنها بدلاً من أن تقترب منها وتتكلم معها، تخاف من صورتها المحتملة، وتعود إلى دمشق.
من هي المرأة الحقيقية ومن هي المرأة المتخيلة بين السلميين؟
ابنة الطبيب الحموي الذي ترك أشلاء الناس تنزف في حماة ليهرب إلى دمشق مصطنعاً الولاء لقاتله؟ أم ابنة الكاتب الذي احتضر بين يدي ابنته؟ وهل نحن أمام حكاية إبادة الآباء كي لا يبقى في سوريا سوى منتحل لصفة الأب، يتفنن في تعذيب أبنائه وقتلهم؟
وماذا كان على نسيم أن يكتب، بعدما تفوق الواقع الوحشي على كل خيال؟ هل كتب نسيم ذو العظام البارزة رواية ناقصة أم أن نصوصه الحقيقية هي أوراق النعوة التي تركها في بيته لتعثر فيها سليمى على نعوتها هي من ضمن اكداس النعوات التي طاولت الجميع. ومن اين يأتيه الخيال حين يضطر إلى ابتلاع دموعه، وكيف يصل إلى الكتابة: «قال لي نسيم في آخر لقاء انه لم يعد قادراً على الكتابة، في كل مرة يشرع في رواية جديدة يغوص في نفسه وفي قصته الشخصية وقصة أهله… يقول إن الكتابة عن الذات ليست سوى دليل على الإفلاس، إضافة إلى أن الكتابة هي تجربة العيش مع آخرين لا نعرفهم».
في مرايا المرأتين تواز يدفع سليمى إلى الحيرة. التوازي هنا ليس تطابقاً، فحكايات الأبوين مختلفة بشكل جذري، الأب -الطبيب نعرف حكايته أما الأب -الكاتب فلا نعثر إلا على احتضاره الطويل. لكنه تواز شفاف ويعبّر عن اليتم الذي أورث المرأتين اضطرابات نفسية، قادتهما إلى عيادة طبيب نفسي، حيث تتعرى الذات، وتعري معها مجتمعاً كاملاً يقبض عليه الخوف ويشلّه.
بلاغة هذه الرواية أنها استطاعت أن تلتقط مفاصل التجربة السورية التي صارت في زمن القمع الوحشي الذي تعرض له الشعب السوري أشلاءً، فانقسمت الذات على نفسها وولدت امرأتان سليمى وسلمى من رحم الخوف.
روت لنا ديمة ونوس في كتابها الرائع «حكاية الثورة» بصوت امرأتين تعيشان يتم البحث عن الرجل – الأب ولا تجدانه. سليمى تفقد شقيقها وتعيش مع امها التي اكتهلت فجأة، وسلمى وحيدة تعيش مع أمها في ظلال غياب الرجل والأب.
امرأتان تتسللان من الحقيقة إلى الخيال ومن الخيال إلى الحقيقة في لعبة المتوازيات الثنائية، وفي توازن دقيق بين الصمت والكلام. في هذا التوازن تشدنا الرواية إلى حكاياتها، وتتركنا مشدوهين أمام اقتصاد اللغة وسحرها، وقدرة الأدب على صوغ جمالياته وسط الألم.
كتبت ديمة ونوس رواية سورية من رحم الخوف، وقدمت شهادة موحية وحارة ومتوترة عن بلاد تعيش ثورتها ونكبتها، حيث الدمار الأكبر هو دمار النفوس.
وسط هذا الألم السوري، تأتي آلام الكتابة، لا لتبلسم الجراح، بل لتعيد الكلمة إلى معناها الأصلي، فالكلام جرح، وحبر الرواية ينزف مثلما ينزف الدم.
القدس العربي