صفحات الرأي

كيف يمكن للهوية أن تقتل وبلا رحمة؟/ سمير الزبن

 

 

يعتبر تيري إيغلتون، في كتابه “فكرة الثقافة”، أن كلمة “الثقافة Culture” واحدة من كلمتين، أو ثلاث، يكتنفها أشد الغموض في اللغة الإنكليزية. كما يعتبر إيغلتون أن الصدام بين الثقافة والثقافة لم يعد معركة تعاريف وحسب، وإنما أصبحت صراعاً عالمياً. وهو مسألة سياساتٍ فعلية، لا سياساتٍ أكاديمية فحسب، بل هو جزء من صورة السياسة العالمية في الألفية الجديدة. وما يقوله إيغلتون على المستوى العالمي يصلح للمستوى المحلي لتحليل الثقافة وعلاقتها بالمجتمع وإنتاج السياسة، فالثقافة كوسيلة اتصال، يتم توظيفها، في أحيانٍ كثيرة، وسيلة اتصال مع آخرين تضيق دائرتهم، وتعتمد على هوية جزئية، وانفصال عن آخرين لا ينتمون إلى هذه الدائرة. بما يجعل الثقافة تقع بين نظرتين، الأولى تنظر إلى الثقافة سجناً، وأخرى ترى الثقافة أفقاً إنسانياً واسعاً وجامعاً مع التعددية الهوياتية الغنية.

يمكن إحالة معظم الصعوبات التي يواجهها البشر في التعامل مع بعضهم إلى انحرافات في الاتصال، أو فقدان هذا الاتصال من خلال الاعتماد على ثقافةٍ تُعلي من الجزئي على حساب الكلي. في حياتنا اليومية، هناك سلوكياتٌ كثيرة، نجد البشر عالقين فيها، وتتحول إلى سلوك نمطي، من دون أن يدركوا ذلك. لكن هذه الممارسة الحياتية تأتي من خلفيةٍ ثقافيةٍ ذات طبيعة مغلقة، وهي ما يمكن تسميتها “ثقافة السجن”، إنها في الحقيقة سجن حقيقي، لأن من يعيش داخلها لا يعرف أنه يوجد مفتاح يصلح لفتح قفل سجنه. إذا كان من الصحيح أن الثقافة تقيّد البشر بعدة طرق، فإن التقييد الذي تمارسه الثقافة يمكن أن يذهب في اتجاهاتٍ متناقضة، فالبشر يستطيعون تطوير الثقافة وسيلة لخنق أنفسهم، أو يمكنهم تطويرها وسيلة للعيش المشترك، ولفتح أفق إنساني لبناء الصلات مع الآخرين، لا لقطعها.

إن فهماً حقيقياً للثقافة يجب أن يعيد إنتاج الحياة بوصفها وسيلة للتواصل بين البشر، وأن يساعد الناس على اكتشاف أنفسهم وأي صلات بينهم، ليروا الجامع والمشترك بينهم، ويمنعهم من النظر إلى الآخرين الشركاء في العالم، أو في الوطن، أو في المدينة، أو في المجتمع، بوصفهم

“معظم صعوبات البشر في التعامل مع بعضهم تعود إلى انحرافات في الاتصال” متآمرين عليهم، يريدون التخلص منهم، بل النظر إليهم بوصفهم شركاء في كثير من المعايير والقيم والحقوق والواجبات، على الرغم من التمايزات الخاصة لكل فرد من انتماءاتٍ وهوياتٍ جزئية، ليس بالضرورة بناؤها في الضد من المشترك. وهو الفرق بين أن تكون الهويات الجزئية من مظاهر التنوع، وأن يتم توظيفها لإنتاج العنف التعصب وتصغير الآخرين، على اعتبار أنها هويات نهائية ومتاريس، لا بد منها من أجل مواجهة الآخرين الذين يترصدون بنا.

يمكن القول إن الثقافة هي الإنسان، بمعناه الواسع، فهي تشكل الصلة بين البشر والوسيلة التي يجب أن يتفاعلوا بها. القيمة الثمينة ذات المعنى لحياة الإنسان هي نتيجة للملايين من التمازجات الممكنة المتضمنة في ثقافة متعددة. لكن هذه المقاربة ليست المقاربة الوحيدة للثقافة. هناك المقاربة “الانعزالية” التي قد تكون طريقةً لإساءة فهم كل شخص في العالم. إننا في حياتنا العادية نرى أنفسنا أعضاءَ لعدد متنوع من الجماعات، ونحن ننتمي إلى كل هذه الجماعات في آن، كأن يكون واحدنا، من بلد معيّن، ومن دين معيّن، وينتمي إلى حزبٍ معين، ويمارس مهنةً معينة، ويشجع نادياً رياضياً معيناً، وهو شخص ليبرالي مناصر لقضايا حقوق الإنسان. ويمكن اختزال هذا الغنى وتعريض إنسانيتنا المشتركة لتحدياتٍ وحشية، عندما نحشر بعضنا في قوالب تصنيف مزعومة ووهمية، تعتمد على هوية جزئية. إن صراعات دموية كثيرة تتغذى على وهم هوية متفردة نقيّة، لا يتشارك الآخرون معنا فيها. و”فن بناء الكراهية”، كما يقول الهندي أمارتيا صن، يأخذ شكل إثارة القوى السحرية لهوية مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل الانتماءات الأخرى.

تعطي هذه الهوية شكلاً ملائماً ميالاً للقتال، يمكن أن يهزم أي تعاطف إنساني أو مشاعر شفقة فطرية، قد تكون موجودة في نفوسنا بشكل طبيعي. ومن الصحيح أيضاً، كما يقول صن نفسه، أن العنف ينتج عن “الآثار المروعة لتصغير الناس”، أو بالأصح لتصغير الآخر المختلف والشريك في العالم والوطن والمدينة، وحتى الحي. والقواعد التي يقوم عليها الحط من قدر الآخرين لا تتضمن فقط المزاعم المغلوطة، ولكن أيضاً الوهم بأن هوية مفردة، يجب أن يربطها الآخرون بالشخص، لكي يحطّوا من قدره. لذلك، يمكن للهوية أن تقتل وبلا رحمة. ففي حالاتٍ كثيرةٍ، يمكن لشعور قوي بانتماء يقتصر على جماعةٍ واحدة، أن يحمل معه إدراكاً لمسافة البعد والاختلاف عن الجماعات الأخرى، فالتضامن الداخلي لجماعةٍ ما يمكن أن يغذّي التنافر بينها وبين الجماعات الأخرى، ويتم تصعيده إلى مستوى القتل. ولا شك في أن الصلات بين الثقافة والحقل السياسي وثيقة جداً، كذلك الصلة بين التعصب الثقافي الأعمى والطغيان السياسي وثيقة جداً أيضاً، خصوصاً في المجتمعات التي تعاني من سلطاتٍ شموليةٍ وتنعدم فيها الحرية. يعتمد الطغيان على التعصب الأعمى على أساس هوياتٍ جزئية، ويتمترس وراءه خندق دفاع عن المصالح، والسلطات تستثمر هذا التحيز الأعمى، وتتخذه ذريعةً لتبرير فشل أجهزة حكمها في إنجاز مهماتها على الوجه الطبيعي. في ظل هذه الشروط، يدفع كل شيء باتجاه العنف الطائفي الذي يختزل البشر إلى بعد أحادي، ويحجب أبعادهم الأخرى التي تجمعه معهم. هذه الرؤية الأحادية للآخر متخلفة وعدوانية وإلغائية، تضع الجماعات البشرية على طريق دموي واضح المعالم.

إذا كانت “الثقافة ليست ما نحيا به وحسب. فهي أيضاً ما نحيا لأجله”، وإذا كان “من الممكن للثقافة أيضاً أن تكون مخيفة ومرعبة”، كما يقول إيغلتون، فإننا نقول معه أيضاً إن الثقافة التي اكتسبت أهمية سياسية جديدة، أنها غدت، في الوقت نفسه، أبعد عن التواضع وأقرب إلى الغطرسة. وقد حان الوقت أن نعيدها إلى مكانها المناسب، وسيلة للتواصل الإيجابي، ليس على المستوى العالمي فحسب، بل وفي الحيز المحلي أيضاً.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى