كينيث ريكسروث.. أن تكون شاعرة يابانية/ محمد الأسعد
لسنواتٍ ظلّ الشاعر الأميركي كينيث ريكسروث (1905 – 1982) يزعم أن القصائد التي نشرها تحت عنوان “قصائد حب مارتشيكو” هي لشاعرة يابانية شابة معاصرة، كان له فضل ترجمتها لا غير. وذاعت ملحوظته التي رافقت نشر هذه القصائد، والقائلة إن مارتشيكو هو الاسم الأدبي لشابة تعيش في جوار معبد “ماريشي بن” في كيوتو اليابانية.
ويمضي هذا الشاعر إلى القول، إن ماريشي بن هي إلهة الفجر الهندية من عصر سبق توافد الآريين على الهند، والمستنيرة، حسب المفهوم البوذي للشخص الذي يتبع خطوات بوذا، وراعية فتيات الغيشا والمحبين والأمهات أثناء الولادة، وقد تكون محاربة من صنف الساموراي في جانب من جوانب سيرتها. ولهذه الإلهة ثلاثة وجوه ذات سمات دالة؛ الوجه الأمامي يدل على الحنان، وعلى الجانبين وجه يدل على النشوة، والآخر على الغريزة البهيمية.
وهناك إضافات أخرى حاول فيها الشاعر توفير أرضية ملموسة أو معلوماتية لإقناع القارئ بأن هذه قصائد كتبتها شابة يابانية. وبالفعل، سادت هذه القناعة بعضاً من الوقت، ثم كُشف لاحقاً أنه مؤلف القصائد وليس مترجمها. وهنا امتدح النقاد قدرته على تقمص مشاعر شخصية امرأة، ومن ثقافة أخرى، بنجاح لا نظير له.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الشاعر والمترجم والناقد، الذي يعتبر شخصية مركزية من شخصيات “حركة نهضة سان فرانسيسكو” في الخمسينيات، والممهد لجيل يدعى “الجيل المتعب”، أو “جيل شعراء النشوة الروحية”، الــ Beatific المعني بتحرير الشعر من سجون الأكاديميات وإعادته إلى الشوارع. كان من بين أوائل الشعراء الأميركيين الذين تعرّفوا إلى الأشكال الشعرية اليابانية التقليدية، مثل الـ”هايكو” والـ”تاناكا”، والتفتوا إلى الشعر الصيني الكلاسيكي، إضافة إلى الشعر اليوناني القديم، خصوصاً شعر سافو. من هؤلاء كُتّاب وشعراء كانوا أصحاب حركة اجتماعية/ أدبية، مثل كيرواك وغينسبرغ وكورسو وفيرلنغيتي.
ويظهر تأثر ريكسروث بالحساسية الشعرية الشرقية في ترجماته وشعره معاً، خصوصاً في ترجمته لشعر الحب الحسي، إلى درجة دفعت بعض نقاده إلى القول إن صوته يشبه صوت الشاعر الصيني تو فو الذي ترجم له. وفي ترجمته مختارات شعرية لعدد من الشاعرات الصينيات، وضعها تحت عنوان “زورق أزهار الأوركيد”، يصعب التمييز بين ما كتبه وما ترجمه.
في هذه المجموعة الشعرية الشبيهة بحكاية عاشقة تروي سيرة حياتها، تصل إلى القارئ أصداء أجراس المعابد اليابانية، وتتوالى مشاهد البيوت والطرقات والأمسيات، وتجمّعات الناس في المهرجانات وحول ضفاف الأنهار، ويلمس شذى فكر شرقي صميم ينتشر بين السطور.
فلا عجب أن أحداً لم يشك أن ما بين يديه هو شعر أنثى من ثقافة مختلفة عن ثقافته، والسبب بالطبع هو أن ريكسروث كان قد خرج بالفعل إلى فضاء شعري أكثر رحابة وإنسانية من شعر تقيّده سمات جغرافية أو مذهبية أو أيديولوجية، إلى فضاء الشعر الحق؛ الشعر الوامض بشيء من أطياف الأبدي، لا بسراب إذا جاءه الإنسان لم يجده شيئاً.
زهرتان في رسالة: قصائد حب مارتشيكو
كينيث ريكسروث
1
يخترق الحبُّ قلبي
يمزّقُ أعضاءَ جسدي
تخنقني تشنجاتُ التوق
ولن تتوقف
2
لو فكرتُ أنني أستطيع الإفلاتَ
والمجيء إليكَ
ستكون عشرة آلاف ميل مثل ميلٍ واحد
ولكن كلينا في المدينةِ نفسها
ولا أجرؤ على رؤيتكَ
وميلٌ واحدٌ أطول من مليون ميل
3
يا لألمِ هذه اللقاءاتِ السرّية
في عمقِ الليل
أنتظرُ والبابُ مفتوح،
فتأتي متأخراً، وأرى ظلّكَ
يتحرك عبرَ أوراقِ الشجر
في أقاصي الحديقة
نتعانق، بعيداً عن أعين عائلتي
أنتحب ووجهي بين كفيّ
ردناي مبللان الآن
نمارس الحب، وفجأة
تلوح نار المراقبة
بصوت أجراس وفانوس
ما أقساهم
حين يظهرون في لحظة مثل هذه
أشباحهم تصيبني بالخيبة
فأثرثر بكلام لا معنى له
ولا أستطيع التوقف عن قول
كلمات لا رابط بينها
4
تسألني ما الذي فكّرتُ فيه
قبل أن نكون عاشقين
الجوابُ سهلٌ؛
قبل أن ألتقيكَ
لم يكن لديّ ما أفكرُ فيه
5
كلانا فحسب
في بيتنا الصغير
بعيداً عن كلِّ إنسان
بعيداً عن العالم
وصوتُ ماء ينساب على صخرة
وعندئذ أقول لك،
“أصغِ، اسمع الريحَ بين الأشجار”
6
توقظني
تفتح فخذيّ، تقبلني
أمنحكَ ندى
أول صباح من صباحات العالم
7
صقيعٌ يغطي قصبَ المستنقع
يتخلله هبوبُ ضبابٍ خفيف
يفرقعُ الأوراقَ الطويلة
قلبي يخفق مسروراً
8
تعال إليّ مثلما تجيء
بنعومةٍ إلى سريرِ الجمراتِ الوردية
لمدفأتي
متألقاً عبر ليل غابة سجينة
9
متمددة في المرج، مفتوحة لكَ
تحت شمس الظهيرة
دخانٌ خفيف يخفي
نصف بتلات وردتي
10
مسفوعاً بالحب، يصرخ صرارُ الليل
عالياً، وأنا صامتةٌ مثل يراعةٍ
جسدي يذوب حباً
11
لننم الليلة هنا معاً
من يعرف أين سننام غداً؟
ربما سنتمدد في الحقول غداً،
ورأسانا على الصخور
12
نيرانٌ
تلتهب في قلبي
لا دخانَ يظهر
لا أحدَ يعرف
13
أمضي النهارَ متوترة
حالمة بكَ في يقظتي، وأرتخي مبتهجة
حين أسمع في الغسق
أجراسَ المساء تدقّ من معبدٍ إلى معبد
14
في كل صباح
أستيقظُ وحيدة، حالمة بأن
يدي هي جسدكَ العذب
ضاغطاً على شفتيّ
15
أنا حزينة في هذا الصباح
الضبابُ بالغ الكثافة
ولا أستطيع رؤية ظلكَ
وأنت تمرّ ببابي
16
كم حياة مرّت
منذ أن دخلتُ سيلَ الحب لأول مرة
لأكتشف أخيراً
أن لا وجودَ لساحل أبعد
ومع ذلك أعرف أنني سأدخل ثانية.. وثانية
17
زهرتان في رسالة
القمرُ يغرق بين التلال البعيدة
الندى يبلّلُ أعشابَ البامبو
وأنا أنتظرُ
يغني الصرار طيلة الليل في شجرة الصنوبر
أجراس المعبد ترنّ في منتصف الليل
الأوزُ البرِّي يطلق صراخه في الأعالي
ولا شيء غير هذا
18
كم من زمن طويل.. طويل، مرّ
عند جسر نهر أوجي
منذ اندفعنا بزورقنا
عبر غيوم من يراعات
19
الآن، يراعاتُ شبابنا
ذهبت كلها
بفضل المبيدات الفعالة
لمنتصف عمرنا
20
هل أخذتني لأنك أحببتني؟
هل أخذتني من دون حب؟
أو أنك أخذتني
فقط لتجرب قلبي؟
21
توهجتُ مرة بعيداً مثل
جبل يغطيه الجليد
أنا الآن ضائعة مثل
سهم أطلق في الظلام
ذهبَ، ويجب أن أتعلم
كيف أحيا وحيدة،
وأنام وحيدة مثل ناسك
مدفون في الغابة
سأتعلم كيف أمضي
وحيدة مثل وحيد القرن
22
هذا الجسد الذي أحببتَ
هشٌّ، لا يستقرّ بالطبيعة
مثل زورق بلا مرساة
نيران صيادي الغاق
تتوهج في الليل
وقلبي يتوهج مع هذا الألم
هل تفهم؟
حياتي تتسرب
هل تفهم؟
حياتي
تتبدد مثل أوتاد
شباك الصيد في مواجهة التيار
التيار في نهر أوجي والضباب
يأخذانني
23
ليلٌ بلا نهاية، وحدة
الريحُ تجرف ورقة شجرة قيقب
نحو بابي، وأنا منتظرة مثل الأيام الخوالي
في مكاننا السرّي، تحت القمر المكتمل
صرار الليل يغني آخر جرس
وجدتُ رسائل حبك القديمة
ممتلئة بقصائد لم تنشرها أبداً
هل هذا مهم؟
رسائلكَ لم تكن إلا لي
24
وأنا نصف حالمة
أعي
بأن أصوات صرار الليل
تضعف مع تقدم الخريف
إنني أندبُ هذه السنة
المتوحدة العابرة
وسنتي لأنها
تصبح أضعف وتتلاشى
ترجمة عن الإنجليزية: محمد الأسعد
العربي الجديد