كي تكتمل الانتفاضة
حسان القالش *
عندما يختلف السوريون على تفسير جملة «الله يحمي البلد»، التي يتداولها الجميع في ما بينهم، فهذا دليل على أن الأزمة الوطنيّة التي تمرّ بها البلاد، تجاوزت المجال السياسي، عملاً وتفكيراً، ووصلت إلى نواة الاجتماع السوري. فليس مصير الحياة السياسيّة فقط على المحك، انما مصائر المجتمعات السوريّة وثقافاتها أيضاً.
وبعيداً من السياسة والتنظير فيها، لا يمكن إنكار واقع أن الكيان السوري، بمكوناته وثقافاته المختلفة، كان في شكل أو في آخر، أسير نوع من العزلة. وهي عزلة تفاقمت وتطورت نتيجة غياب التمثيل السياسي الحقيقي لكل هذه المكوّنات الاجتماعيّة. ذلك أن حزب البعث كان قد احتكر السياسة والاجتماع معاً منذ تسلّمه السلطة، وتجاهلت سياساته الداخلية واقع الحال السوري، فنظرت إلى السوريين على أنهم كتلة واحدة، تفكّر وتحلم وتعيش بنسق متشابه، كسول وبعيد من الحيويّة. بل نظر البعث إلى التنوّع السوري بعيون الرّيبة والشكّ والتخوّف، فأنكره بدل أن يستثمر عوامل الغنى التي يمثّلها. وهذا ما زاد من إصراره على صهر السوريين جميعاً في بوتقته الأيديولوجيّة، بكل شعاراتها وخطاباتها الحُلُميّة واللاواقعيّة، ما أنتج، بمرور الزمن الطويل، كتلة جماهيريّة غليظة، غطّت في سبات الحُلم القومي والجاهزية الأبديّة لمحاربة العدو الخارجي. هذا بينما كان الدّاخل، أي الاجتماع والثقافة تحديداً، يهترئ ويتحلّل. والراهن أن مكر التاريخ قد حدث، وقال كلمته، فانفجر هذا الاحتقان السياسي والاجتماعي والثقافي في لحظة اليقظة الشعبويّة العربيّة. وانتفض السوريون في وجه الدّولة الأمنيّة التي استبدّت في كل مجالات عيشهم، وقرّروا أنْ لا بدّ من التغيير. على أن تحقيق التغيير يجب أن يكون على كل المستويات الوطنيّة، من الفرد والمجتمع وصولاً إلى شكل الحكم الذي يتوافق مع ارتقاء سورية إلى دولة – أمّة حقيقيّة وحديثة.
وعمليّة التغيير هذه، بما تنطوي عليه من صعوبة ومشقّة في حال بلد مثل سورية، تقاومها بعض شرائح المجتمع، مدفوعة بطابعها الأقلّي، الذي يغلب على معظمها، والواقعة تحت تأثير أدوات السلطة الدعائيّة، التي تنفخ في رُهاب الخوف والاقصاء الكامنين في سيكولوجيا الأقليّات. والحاصل أن الحركة الاحتجاجيّة السوريّة تحتاج إلى مشاركة فاعلة من العناصر ذات الطابع الأقلّي، لتكتسب قدراً أكبر من الزخم والصدقيّة وعموميّة قضيّتها. وهذا ما يستدعي دوراً أكثر رياديّةً للمثقف السوري، يطالبه بعدم الغرق في الوجه السياسي للأزمة، وتركيزاً أكبر على حركة المجتمع، وتطمين الأقليّات في شكل فعليّ وواضح، وإعلان موقف مباشر من أي حادث جانبيّ يحدث في الشارع المعترض ويمكن أن يأخذ شكلاً طائفيّاً أو مذهبيّاً، وإدانة كل ما له علاقة بالفتاوى ذات النفَس التحريضي والتكفيري، التي تصل يوميّاً إلى مسامع جميع السوريين، ولا تتوانى منابر اعلاميّة مقرّبة من السلطة عن إعادة بثّها، مراراً وتكراراً. فلا شك في أن الأسابيع الماضية كانت قاسية ودمويّة، وأثبتت أن ما يجري في سورية أزمة وطنيّة حقيقيّة ومصيريّة، وليس مجرّد احتجاج مطلبيّ معيشي. وهذا بحد ذاته مكسب حقّقه الشارع السوري، ومطلوب لدعمه ورعايته، ضبط رومانسيّة هذا الشارع، والاستمرار في عمليّات التفكير والاهتمام بالمجتمع، خصوصاً أن الصّور والمشاهد التي وصلتنا من أنطاليا لا تبعث على التفاؤل.
* كاتب سوري
الحياة