كي لا تسقط سوريا ليبقى النظام.. قراءة في حوار
فؤاد مطر
كانت الإطلالة الأولى للعميد مناف مصطفى طلاس من على شاشة فضائية «العربية» يوم الثلاثاء 24 يوليو (تموز) 2012 تحتاج إلى الكثير من التوضيحات، ذلك أن العميد مناف لم يعلن من خلال إطلالته «البلاغ رقم واحد»، ولم يظهر مرتديا الزي العسكري، وإنما كما يظهر خارج الخدمة أو كما كان يراه الناس في أوقات مضت بصحبة صديقه الرئيس بشار من دون استعمال المشط، تاركا التسريحة «الشببلكية» على ما هي عليه، والتي كانت تغطيها في الواجب الوظيفي القبعة العسكرية لمن هم في رتبة عميد. ففي تلك الإطلالة بدأ الكلام مترحما على «شهداء هذه الثورة العظيمة» على نحو ما يفعل معارضو الخارج ونشطاء الداخل خلال الاتصال الهاتفي أو عند الاستضافة في استوديوهات «العربية» و«الجزيرة» و«المستقبل»، الفضائيات الثلاث التي تشكّل إلى جانب افتتاحيات زميلنا رئيس تحرير «الشرق الأوسط» طارق الحميد طليعة مواجهة نظام الرئيس بشار بالتعليق والصورة إلى أن يسقط. وذلك كان حال هذا «الكوماندوز» الإعلامي منذ أن بدأ الرفض البشاري للمسعى العربي لاختصار الأزمة خشية أن ينتهي الأمر كما هو الحال بعد أكثر من ثمانية عشر شهرا إلى أن سوريا تتساقط لكي يبقى النظام، أو بتشبيه أدق لواقع الحال أن سوريا تتساقط في ظل نظام يتصدع.
في الإطلالة التلفزيونية الأولى للعميد مناف طلاس دعا إلى «سوريا جديدة لا تقوم على الانتقام أو الإقصاء أو الاستئثار»، وإلى «الثورة على الفساد والطغاة»، وإلى «الحفاظ على مؤسسات اختطفها أفراد أو أفقدوها مكانتها..».
الكلام في مجمله نصائحي، والمتحدث هنا بات خارج الثوب العسكري، إذن فهو يبعث برسالة مفادها أنه منشق، إنما بلباقة إصلاحية الغرض وعلى طريقة غورباتشوف مع ملاحظة أن «بيروسترويكا» التي رفع رايتها هذا الأخير، وتتمحور حول إعادة النظر، زلزلت أرض الإمبراطورية السوفياتية، فتناثرت الجمهوريات بالتدرج، وما عاد في اليد الروسية سوى العناد والمكابرة واقتناص تعقيدات أزمات خارجية من نوع الأزمة السورية لكي يصطاد الثنائي بوتين – ميدفيديف، بعد ميدفيديف – بوتين، في مياهها العكرة، دافعين بسوريا إلى اللحاق بالعراق كبلد يمعن النظام فيه تدميرا للحجر والفتك ببعض البشر بدل أن يزيد البنيان ارتفاعا ويقترب من الناس ومطالبهم المشروعة. ثم لا يتنبه النظام إلى ما يقوله فيعلن «المتحدث الجهادي» أن إمكانية استعمال الكيماوي والجرثومي واردة إنما في حال تعرَّضت سوريا لعدوان خارجي! وفات هذا «الجهادي المقدسي» أن الكلام هنا ليس زلة لسان يمكن تجاوزها، وإنما قرينة تؤذي النظام وكل الشعب السوري بما فيه شعب الساحل قبل الطرف الموجه إليه هذا التحذير غير الموفق.
كلام العميد مُناف – أو فلنقل بعد الآن «مناف مصطفى طلاس» فقط، وذلك لأن هذا الفتى المقدام تخلى عن المجتمع العسكري لينتسب إلى المجتمع المدني- في الإطلالة الأولى كان – إذا جاز القول بالأسلوب الإعلامي – أشبه بعناوين لمقالة مطولة قيد الإعداد، أو برسم الكتابة. ثم جاء المزيد من التوضيح ووضْع نقاط كانت الحروف خالية منها في الحوار الكثير التميز معه، في مدينة جدة التي جاء إليها شاكرا ومعتمرا ومتحدثا بنسبة عالية من الصراحة المحسوبة.
وأهمية هذه المقابلة أن الذي أجراها كان طارق الحميد، لأنه كما أسلفنا أحد شجعان مواجهة النظام البشاري وحلفائه من إيران إلى لبنان وبينهما روسيا، ولأنه يرى أن الفترة بين انضمام مناف إلى الوالد في باريس، والذي سبقه إليها ببضعة أشهر، أكسبت العميد المنشق الكثير من الخبرة في الكيفية التي سيخاطب بها السوريين بمختلف أطيافهم، أي زيادة في التوضيح إن الابن العميد هنا يجاور الأب العماد. وكلاهما – كما ليس لآخرين من المحلقين في فضاء المعارضة، ربما باستثناء عبد الحليم خدام المقيم هو الآخر في باريس – من بين الأدرى بحقائق الأمور داخل النظام في سوريا، ومن شتى الأجنحة، وبالذات المربع الأكثر أهمية والممسوكة خيوطه بانتقائية لا تبدو الحكمة ولا الحنكة واردتيْن في جداول أعمالها.
وهذه الأجنحة هي: جناح الرئاسة والعائلة، وجناح «البعث» والرفاق، وجناح الأمن الذي ما خفي من ممارساته هو الأعظم، وجناح المؤسسة العسكرية التي عمّر الأب فيها كوزير للدفاع وشغل فيها الابن أحد مواقعها الأكثر حساسية. وعلى ضوء ذلك فإن لدى مناف طلاس أفضل مستشار هو والده في أروق مكان، أي منزل الشقيقة ناهد في باريس، خصوصا أن عنصر الأبوة هنا يسمح للمستشار بأن ينصح إلى درجة الإقناع، وينهى بصيغة الأمر، وأن عنصر الأبوة لا يعطي للابن حق عدم الأخذ بالنصيحة أو النهي عن أمر غير مستحب.
في حوار طارق الحميد مع مناف مصطفى طلاس كانت الأسئلة خالية من المجاملة وكانت مباشرة. ومن جهة مناف الذي جاء ليعلن في سياق الحوار مع «الشرق الأوسط» الشكر لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز على استضافته في المملكة معتمرا ومشيدا بنخوة المملكة تجاه سوريا والشعب السوري عموما، بمن في ذلك الطائفة العلوية ومنذ زمن الأب الراحل حافظ الأسد، كلمة حق لطالما عتب ضمنا على صديقه الرئيس بشار لأنه لا يستحضرها، ولو أنه فعل لما كان حاله وحال البلاد وصلا إلى ما وصلا إليه، حيث إن سوريا الوطن تكاد تسقط من أجل أن يبقى النظام الذي يقول عنه العميد مناف في الحوار مع طارق الحميد «لا أرى سوريا ببشار الأسد. بقاء الأسد في السلطة بعد كل هذه الأعداد من القتلى يعني أن الاحتمالات باتت ضعيفة، وهو لم يسلك السلوك الأمني ليبقى في السلطة، لكن الأجهزة الأمنية التي كنت أخالف رؤيتها شوشت الرأي لديه، والأخطاء في السياسة أحيانا قاتلة».
من المؤكد أن مناف مصطفى طلاس سيسدي دفعا قويا للحراك المتواصل في حال ارتأى أن يتخلى عن الكثير من التردد في الإضاءة على قضايا وردت تلميحا في الحوار خصوصا حول الـ«هناك من الدائرة المحيطة به الذين سهّلوا له حجم الأزمة، وبالتالي فإنه فضَّل أن يتعامل معها بالإطار الأمني»، وحول الدور الإيراني الذي يعرف عنه ولا يعرف، بمعنى أن الحديث حاليا من جانبه لا يخلو من مخاطر يفضل النأي عنها لأنه «طالبُ أمان لعائلته وأولاده»، ولأنه أيضا «عميد مدني» في أي سعي «لتوحيد شرفاء داخل سوريا وخارجها من أجل وضع خارطة طريق تُخرج سوريا من الأزمة»، وفي منأى عن الاجتثاث، الذي ما زال مع الأسف بندا في جدول أعمال حكومة الرئيس نوري المالكي في العراق والذي – أي الاجتثاث – موضع هوى الحكم الجديد في ليبيا، وإلا فما معنى النكران المباغت لدور بالغ الأهمية قام به الرائد عبد المنعم الهوني الذي كان أول من اتخذ موقفا معترضا من رفيق الثورة معمر القذافي يشبه إلى حد كبير موقف العميد مناف طلاس من صديق العمر بشار، في ذروة ازدهار التفرد القذافي على مدى عقود في إدارة البلد، وارتضاء هذا الضابط المقدام منصب ممثل ليبيا لدى الجامعة العربية، إلى أن ارتأى الحكم الجديد الاستغناء عنه مع أنه يستحق، كما أحد رموز التنوير الإسلامي المرجع القانوني إبراهيم الغويل، أن تكون هنالك إصغاءات إليهما وإلى آخرين كثيرين، وفي منأى عن أوهام الإصلاح بالانتقام والاجتثاث. عسى ولعل ينحى النجم الليبرالي الدكتور محمود جبريل في حال ترؤسه الحكومة المنحى نفسه الذي سلكه الدكتور إياد علاوي، خصوصا أن الجامع المشترك بينهما أن فوزهما في الانتخابات كان مبهرا، وأنهما نتاج معترض من نظام سقط.
يبقى القول إن مناف مصطفى طلاس أجهد لسانه لجهة ضبط كلام يسيء إلى رفيق صباه بشار الأسد. فتلك قاعدة «العيش والملح» التي إلى جانب الحفاظ على المكانة الأرفع التي اعتمدها والده مع الرئيس حافظ الأسد تستوجب «حفظ الجمائل». أما بالنسبة إليه فالأمر ينحصر في ذكريات بقيت حلوة وموضع حسد الحاسدين إلى أن فقد القدرة على تحمل ما يجري فقرر أن يقول ما معناه وداعا أيها الرفيق الصديق الذي ستكتشف أن نصيحة مني، ومن ناصحين آخرين إذا هم وجدوا بمن فيهم المخضرم «أبو جمال» الذي ما عدت أنت ومَن حولك تتحملون تخريجاته، كانت ستغنيك عن عذاب الضمير، وتذكّرك، وسط هذا الميدان الذي يمتلئ بالدمار وضحايا أبرياء، بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «الحكمة ضالة المؤمن، فكل كلمة وعظتْك وزجرتْك ودعتْك إلى مكرمة أو نهتْك عن قبيح فهي حكمة وحُكْم»، وقول الإمام علي بن ابي طالب (رضي الله عنه): «ضع فخْرك، واحطُطْ كِبْرك، واذكرْ قبرَك فإن عليه ممَّرك».
ولو أن الرئيس بشَّار، هكذا نستخلص من مجمل حوار مناف مصطفى طلاس مع زميلنا طارق الحميد، استحضر القوليْن الكريميْن اللذين أوردناهما لكانت الأمور في أي حال أفضل مما هي الآن، وأفضل بكثير مما ستؤول إليه في حال تواصَل التعامل مع الأزمة وفق قاعدة: فلتسقط سوريا ليبقى النظام.
الشرق الأوسط