صفحات الرأي

كي لا يتحوّل العالم العربي إلى عراق كبير


محمد الحدّاد

يقول مثل فرنسي مشهور: الثورات يحلم بها الشعراء، ويحققها الشجعان، ويستفيد منها الانتهازيون.

والانتهازيون الذين ركبوا الثورات العربية كثيرون إلى حد يمتنع معه العد والإحصاء. هل تصدقون أن في تونس، مهد الربيع العربي، ما زال هناك جرحى من أيام الثورة لم يعالجوا ولم تنتزع «الخراطيش» من أجسامهم، لأن الطبقة السياسية التي ركبت الثورة غير عابئة بهذا النوع من «القضايا الجزئية»؟ وهل تصدقون أن الثورة التونسية التي قامت أساساً بسبب تفاقم ظاهرة البطالة، شهدت مضاعفة عدد العاطلين عن العمل بسبب الإضرابات والاحتجاجات العشوائية وقطع الطرقات، ما أدى إلى إغلاق كثير من المؤسسات، حتى بعد تنظيم انتخابات شرعية وديموقراطية لا تشوبها شائبة؟

لكن أبشع أصناف الانتهازية تلك التي تخطَّط وتدبَّر لاستدراج العالم العربي ككل في مخطط جهنمي هدفه تحويله إلى عراق كبير، وتحويل وجهة الربيع العربي من أهدافه الأصلية المتمثلة في الانتقال الديموقراطي والتوزيع العادل للثروة الوطنية وتحقيق الكرامة للمواطن، إلى تفكيك المجتمعات العربية وتركها تتناحر إلى الأبد.

ومع أن تونس تـقـدّم على أنـها التجربة الأفضل لنجاح مرحلة ما بعد الثورة، فإن هذا الـقول فيه الكثير من المبالغة والدعاية. فهي التجربـة الأـفضل لسبب واحد هو أن التجارب الأخرى أكـثر رداءة، والميزة الوحيدة لتجربتها هي الطابع السلمي للصراعات بين أطرافها السياسية… الآن. فمنذ أيام قليلة نظمت مجموعة تعلن صراحة تعاطفها مع «القاعدة» وبن لادن، اجتماعاً ضخماً في أحد أكبر المساجد في البلد وضمت إليها عدداً من الأتباع يتراوح بين الخمسة آلاف والعشرة آلاف نفر. واستفاق السكان على وقع ما دعي بغزوة القيروان وعلى أصوات التكبير المتعالية من حناجر المجموعات الملتحية التي فتحت مجدداً، بزعمها، أول مدينة إسلامية، واليوم تكبير وغداً تفجير، فمن يظن أن أيديولوجيا «القاعدة» ومشروع الديموقراطية متوافقان فهو إما بلغ درجة متقدمة من الغباء وإما بلغ مرحلة متقدمة من استغباء الشعب.

وإذا كانت هناك أسباب لفهم وجود القاعدة في ليبيا أو في سورية، فما هو سبب وجود أنصارها في تونس التي كانت ثورتها سلمية بحتة؟ وأي جرم يرتكبه حكام تونس الجدد عندما يتركون هذه المجموعات تعمل بكل حرية في البلد؟

نشهد في كل مكان سيناريوات التفاف على الثورات العربية، في تونس وفي غيرها، وهذه الثورات أصبحت مهددة تهديداً حقيقياً بما دعوناه بالتحول إلى عراق كبير، وإن برز ذلك بطريقة أكثر نعومة وتدرجاً. أما عناصر الاشتراك فأهمها الآتي:

أولاً، ترسيخ الخلط بين إسقاط النظام الحاكم وإسقاط الدولة، فالنظام الحاكم هو المسؤول عن مآسي الماضي، أما الدولة فهي جهاز إداري تشكَّلَ تدريجاً وقام على مجموعة من المبادئ المشتركة والرموز الجمعية، بما سمح بتراكم خبرات في التعايش والتسيير تُتوارث بين الأجيال من دون أن تكون ملكاً لأحد. فإذا انحلت الدولة استعدنا وضعنا «البدوي» السابق لقيام الدولة والمرتكز على بنى أولية مثل العشيرة، وعلينا أن نتذكر كل ما كتبه ابن خلدون (التونسي!) في عسر إقامة الدول لدى العرب.

ثانيا، إنشاء مجالس وبرلمانات تصبح مسرحاً لخصومات ومعارك مضحكة بين السياسيين، وتنفصل عن الهموم الحقيقية واليومية للمواطنين، بما يدفعهم إلى الاستخفاف بالديموقراطية ومؤسساتها لأنها لم تحقق لهم آمالهم بتغيير أوضاعهم نحو الأفضل.

ثالثا، الانتقال من نسق الحزب الواحد القديم إلى نسق الحزب الواحد الجديد: الأول كان يبرر سيطرته على الحياة السياسية ووصايته على مقدرات الشعب بكونه حرره من الاستعمار، والثاني يمارس أنماط السيطرة والوصاية ذاتها ولكن بتعلة أنه قد حرر الشعب من الاستبداد.

رابعاً، التفريط بمدنية الدولة بما يحول كلمة ديموقراطية إلى مجرد لغو وتلاعب بالألفاظ، ويحصل التفريط بجرعات متدرجة، يقبلها الشعب على مضض، مؤملاً مع كل جرعة أن تكون الأخيرة.

خامساً، ضرب الوحدة الوطنية من خلال الاعتداء على مقوماتها، سواء منها الرمزية مثل العلم أو اللغة، أو المقومات المادية مثل وجود جذع تعليمي مشترك بين جميع الشبان، كي يعد هؤلاء منذ نعومة أظافرهم على معاداة بعضهم بعضاً.

سادساً، إطلاق الغرائز العدمية والوضيعة للبشر وتشجيع الشعبوية وإغراق البلد بالشعارات الثوروية لتكون مطية يستعملها الفاشلون للتغطية على فشلهم، واللؤماء للتبجح بلؤمهم.

كل مـا نـرجـوه أن تستفيق الشـعوب العربية لتسـتـفـيد مـن هــذه الفرصـة الـسـانـحـة التي تـمـكّـنـهـا مـن الـدخـول في العصر الديموقراطي، كما كان الشأن مع إفريقيا الجنوبية وبلدان أميركا اللاتـينـية وبـلـدان أوروبـا الشرقية. فالديموقراطية وحقوق الإنسان أصبحت قيماً كونية مشتركة بين جميع البـشــر، مع تنـوع تطـبيـقاتـهـا وآلياتها بحـسـب اختلاف الـثـقافات والـخصوصيات الـمحلية. وإذا فوتت هذه المجتمعات الفرصة الحالية فقد تـنـتظر قـروناً، وستيأس الأجيال المقبلة من محاولات التغـيير وتصبح وقوداً لمواجـهات أهـلية وفـتـن ديـنــية، تثـخِـن مجتمعات مثخـنة أصلاً بآلاف النقـائـص والـعـلل.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى