صفحات الثقافة

كي لا يسرق الاستبداد مستقبل سوريا أيضاً


    محمد العطار

في مقطع فيديو مسرّب من درعا، يظهر طفل صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره وهو يرثي أخته الصغيرة المسجاة على الأرض، كملاكٍ نائم، محوطة بعددٍ من النسوة. يغنّي الأخ باكياً “جنة يا وطنّا”. تبكي النسوة بينما يغنّي هو عن وطن “ناره جنة”، ثم تغلبه الدموع ويطلق صرخة طويلة ويستسلم للأسى والبكاء.

ماذا أكتب عن حال سوريا اليوم؟ هل هناك ما لم يُقَل بعد عن المقتلة المستمرة؟ هل هناك ما لم يناقَش بعد عن الوضع السوري الراهن في ضوء التعقيدات السياسية والملفات الإقليمية والدولية المتشابكة؟ في ظل مشاعر الخواء والعجز المقيت، أشعر بأن الكتابة يجب أن تكون عن صرخة الألم التي تغلب الأغنية عند ذلك الطفل المفجوع، عن الحزن العميق الذي قد يجرّد كل نصرٍ من قيمته.

لم يعد حاضر سوريا هو فقط ما يؤرق السوريين. إنه المستقبل الذي بتنا نخشى أن يُسرَق منا أيضاً. لا أقوى على تصور تراجيديا أعظم من تلك التي تقول إن نظاماً مستبداً سرق ماضي البلاد وحاضرها، سيسرق مستقبلها أيضاً.

سيرحل النظام لا محالة، الآن أو بعد قليل. هكذا يخبرنا التاريخ، وهكذا تخبرنا إرادة شعب مذهل قاوم كل أشكال التنكيل عبر أكثر من سنة ونصف سنة. يبقى الرهان أن لا يخطف المستبد مستقبل البلد معه عند رحيله. يبقى أن لا نسمح له بإمرار شعاره الأثير: “نحرق البلد”. يجب أن لا يسرق النظام الشمس حين يسقط. يجب أن لا يسرق مستقبلنا.

أنتمي إلى جيل تشكّل وعيه على هذا الاستبداد. طوال عقود، ردّدنا في “مداجن” طلائع البعث والشبيبة: “قائدنا إلى الأبد… الأمين حافظ الأسد”، ثم استُبدل حافظ ببشار. تغيّرت الاسماء وبقي الأبد يحكم حاضرنا. ترعرع جيلنا وهو يرى الأجيال التي سبقته محبطةً ومهزومة. استسلمت للاستبداد وهجرت أحلامها. هكذا يُسرَق الماضي، ويُسرَق كذلك حين تُسرَق ذاكرة بلدٍ بأكمله، وحين تُختزل هذه الذاكرة باسم شخص وبإنجازاته فقط، وحين يُكنى البلد باسمه. بينما يُسرَق الحاضر تحت وطأة التنكيل، والحل الأمني العسكري في مواجهة مطالب مشروعة. نتفقد أصدقاءنا وأحبتنا كل ليلة، لنرى من اعتُقل ومن قُتل. الحاضر هو لحظة المخاض العسير، طريقٌ وعرٌ وشاقّ. الحاضر هو درب الآلام الذي لا بد لنا من اجتيازه.

بقي لنا المستقبل إذاً. ولادتنا الثانية تتوَّج هناك. المستقبل هو ما يجب عدم السماح بسرقته. ألا يكفي أن السجّان أسر الماضي والحاضر؟ كيف يمكنه أن يسرق المستقبل؟

تأتي الإجابة المريرة من كرم الزيتون، والحولة والقُبير ودوما وزملكا، وقبلها وبعدها. المجازر ليست هي فعل القتل بدمٍ بارد فحسب، ولا صور الجرّافات القاسية وهي تردم أكفاناً بيضاء متجاورة تحت التراب. المجازر هي أيضاً جروحٌ غائرة لا تندمل، وهي منهلٌ خصب للخوف والانغلاق والغضب المجنون. المجازر هي فعلٌ ممنهج وخسيس لقطع الطريق أمام عودة محتلمة لفريق من السوريين إلى المطالبة بنزع عباءة الأبد. يُسرَق المستقبل عبر سياسات العنف المنظّم والموزّع بقصد وخبرة على المناطق، بقصد ترسيخ معادلة الأكثرية والأقليات. يُسرَق المستقبل بتأجيج الطائفية وبالعمل على سحق ما بقي من نسيجٍ مجتمعي ظل صامداً عبر عقود من الاستبداد.

ألا يزال ممكناً قطع الطريق أمام سرقة المستقبل؟ منذ أيام قُصفت قدسيا. مصدر القصف كان أحياء الموالين المجاورة لها والمحسوبة على طائفة معينة. القاتل يعي تماماً ما يفعل. عينه على المستقبل. تُقصَف قدسيا التي احتضنت أبناء الطبقة المتوسطة الدمشقية المهزومة، بعدما تأكلت طبقتهم رويداً رويداً. تُقصَف قدسيا الشراكس والخليط السوري البديع، قدسيا التي احتضنت آلاف اللاجئين العراقيين، قدسيا التي تبعد عشرين دقيقة بالسيارة عن وسط دمشق! أتحدث إلى صديقي عبر الـ”سكايب”، فيأتيني صوت قذائف الهاون المتساقطة عشوائياً أقوى من صوته المتقطع. ثم ينقطع الاتصال. أُحدّثه في اليوم التالي ليخبرني أنه وجد نفسه مضطراً للنزوح مع عائلته التي كانت قد نزحت قبلاً من حمص: “إلى أين ننزح في المرة المقبلة؟”. لم أجبه. كنت أتمنى أن ينقطع الاتصال هذه المرة كي  أهرب من عناء الإجابة. عدد من أقربائه قُتل في حمص منذ شهور. غلبه الدمع: “والله لن أسكت على حقي ولو بعد مئة عام”. وددت القول:” الأعوام المقبلة كلها لك ولنا. لن نمضيها غضباً وانتقاماً.” لكني صمتُّ مرة أخرى. هل تعلمون كيف يُسرَق مستقبل بلد؟

بعد أيام قليلة تحدثتُ مع أحد أصدقاء الطفولة وهو من زملكا، بعد المجزرة المروعة هناك. هل تعرفون زملكا؟ هل تعرفون غوطة دمشق الشرقية؟ أبناء جيلي يحفظون هذه الجملة عن ظهر قلب: تحيط الغوطة بمدينة دمشق كما يحيط السوار بمعصم اليد. هذا تقريباً كل ما علّمونا إياه عن الغوطة في مناهجنا البليدة. بعيداً من كتب المدرسة كبرنا ونحن نرى الغوطة تتأكل رويداً رويداً. الأحزمة الخضراء تختفي والبساتين تتحول معامل وورشات قميئة، مدن الغوطة يلفها الإهمال ويجتاحها الفقر. أسأل صديقي: هل فقدت أحداً؟ يجيبني بصوتٍ هادئ: “فقدت اثنين من أولاد عمومي، نحن فخورون”. للأمانة، رغبتُ أن أسمع الأسى في صوته. هناك حزن يجب عدم كبته. قلتُ له:” يقلقني صوتك المحايد جداً. هل أنت بخير؟”. يجيبن: “أنا بأفضل حال، أنا ابن عم الشهداء، لن أموت إلا مثلهم شهيداً”. وددتُ القول: لكن الموت مفجع! يجب أن يتاح لنا الوقت لنحزن. يجب ألاّ نحتفل بالموت أياً يكن نبل مقاصده. لكني صمتُّ. هل تعرفون كيف يمكن أن يُسرَق المستقبل؟

هل هي مهمة مستحيلة اليوم أن نحمي المستقبل من سرقة الطاغية المتهاوي؟ نجد أنفسنا اليوم أمام جبلٍ لا بد من تسلقه كي نفعل ذلك. حمايته ليست ترفاً، بل هي حماية كل ما قامت من أجله الثورة. حماية المستقبل تعني أيضاً أننا سنحرر الماضي من بين يدي الطاغية وسنحرر ذاكرة السوريين أخيراً.

يتحدث الأب باولو الذي أرغم على مغادرة سوريا، عن رجلٍ ذي حظوة في مدينة القصير دفن بيديه اثنين من أولاده، قتلهما النظام، لكنه كان مصرّاً في كل مرة يقود تشييعاً أو تظاهرة، على ترديد “الشعب السوري واحد”. هكذا نتسلق الجبل الشاهق. بالإصرار على تغليب “الشعب السوري واحد” على “الأسد أو نحرق البلد”. نناضل الآن من أجل أن تظل الأغنية أبقى أثراً من طعم الألم في فم الطفل الدرعاوي المكلوم بفقدان أخته. من أجل أن نتذكر أن قيد المستبد يشمل المناطق التي ينصب فيها مدافعه، تماماً كما يشمل المناطق التي ترزح تحت القصف، كلتاهما بحاجة للحرية وكلتاهما تعيش في الأسر. قد يبدو هذا جهداً مضنياً (وهو كذلك)، وقد يبدو سبيلاً طوباوياً (ولم لا؟)، لكن واقع الحال يخبرنا بأن لا سبيل غيره من أجل منع المستبد من أن يأخذ المستقبل معه عندما يسقط.

مسرحي سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى