كي يختار السوريون أهون الشرّين: ما الذي تفعله «جبهة النصرة» في سوريا؟: نجيب جورج عوض
نجيب جورج عوض()
يتحدث الجميع في الإعلام العربي والغربي عن «جبهة النصرة»، وكتائب جبهة النصرة، ويستفيضون بوصف قدرات أفرادها القتالية العالية، وشراستهم في المعارك، وتنظيمهم الرفيع المستوى في العمل الجهادي، وتألُّف وحداتهم من جهاديين إسلامويين من اصقاع العالم الإسلامي الواسع، بشقيه المشرقي العربي والغربي اللاعربي. ونرى الكثيرين من السوريين يعبّرون عن خوفهم الشديد من خطاب جبهة النصرة، وتوجهها العقائدي الإسلاموي، الذي يدعو لتأسيس خلافة إسلاموية في سوريا، ويسرد آخرون لنا قصصاً عن أفعالهم العنفية والقمعية ضد الشعب السوري الثائر دون سواه، وضد شباب الثورة اللااسلامويين، لا بل ووقوف مجاهدي الجبهة في وجه التظاهرات الشعبية السلمية، التي ترفع شعارات مدنية لا دينية وتحمل علم الثورة. وبالعكس، نجد أيضاً بين السوريين، بخاصة منهم المنتمون لبعض أطياف المعارضة، من يدافع وبشراسة عن جبهة النصرة، أو من يكتفي بتبرير أفعالها والإشارة إلى جوانب مضيئة فيها، بأن يحدثنا عن احترام الجبهة للمواطنين السوريين من غير المسلمين، والحرص عليهم وعلى سلامتهم في المناطق المحررة من قوات النظام في سوريا، أو أن يخبرنا عن لقاء مقاتلي الجبهة له بالأحضان والترحيب الحار، وإصرارهم أمامه على عدم التحدث عن أي فرق بين مسيحي ومسلم، الخ الخ.
هذا ما نشهده عبر وسائل الإعلام الورقية والسمعية والبصرية شرقاً وغرباً، حتى باتت جبهة النصرة الشغل الشاغل، واستطاعت أن تستقطب الاهتمام العالمي وأن تحفز الرأي العام، السوري والعربي والعالمي، وتستحوذ على اهتمامه أكثر بمئات المرات من الثورة السورية بحد ذاتها وآلام الشعب السوري ومآسيه، الذي يقدم الشهداء بالمئات كل يوم على مذبح الحرية والحلم بالخلاص. لكن، ما أود أن أتأمله في هذه المقالة هو سؤال لا أجد أن أحداً قد صرف حتى الآن الوقت الكافي او الاهتمام التحليلي المطلوب للتفكير به: لماذا يوجد أصلاً في سوريا مثل تلك الحركة الجهادية المدعوة «جبهة نصرة»؟ ما هي الأسباب السياسية والاستراتيجية التي دفعت القطري والتركي لخلق جبهة النصرة في سوريا، والتي تجعل العالم اليوم يركز كافة الأضواء والنقد إليها ويوجه نحوها قنوات القلق والترقب الشعبي السوري ويحفز مواقف الرفض والخوف العالمي منها، من دون أن يفعل في الواقع أي شيء ملموس كي ينهي وجود تلك الفئة على الأرض السورية ومن دون أن يدفع حتى أي طرف إقليمي فاعل ومؤثر في الثورة السورية كي ينبذها، ويعمل على تنقية الثورة السورية من آثار مثل تلك الفئة الجهادية السلبية، والقاتلة للثورة السورية دون سواها؟
من يتابع أخبار الثورة السورية على الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي يلاحظ أن السوريين لم ينفكوا يجتهدون بتقديم تحليلات لمصدر وجود تلك الجبهة ولمصلحة من تعمل. البعض يقول ان الجبهة ادخلت إلى سوريا من قبل النظام السوري، كي تشوه صورة الثورة، وتسبب الرعب عند الغرب من نتائج هذه الثورة التي يقودها جهاديون بن-لادنيون. أعتقد أنَّ النظام لعب دوراً في السماح لعناصر الجبهة بالدخول إلى سوريا إلى حدٍ ما في البداية فقط. وأعتقد أنه ليس بالبعيد عن النظام أن يكون قد أطلق من سجون مخابراته، أثناء الشهور الأولى للثورة، بعض القيادات الارهابية المهمة، ولكن على أمل إعادة تصديرها إلى دول الجوار، التي تقف مع الشعب السوري وحريته ضد النظام، أو كي يقدمها كفريسة سهلة الالتهام والالتقاط للمخابرات الغربية، كنوع من أنواع البدء بعقد صفقة، كانت لفترة طويلة مرجوة ومراهن عليها، بين النظام والقوى الفاعلة في المنطقة. ولكن، من المستبعد برأيي أن يكون النظام قد خلق بنفسه كتائب مقاتلة، متمرسة وشرسة، وفاعلة جداً على الأرض مثل كتائب جبهة النصرة لمجرد تشويه صورة الثورة وتخويف الغرب. القيام بهذا سيكون عملاً انتحارياً ليس النظام العاتي والمحترف في الاستبداد والارهاب كالنظام السوري من الغباء والسذاجة كي يرتكبه، فجبهة النصرة نجحت خلال السنة المنصرمة في تكبيد قوات النظام المختلفة، وفي مختلف مناطق سوريا، بما فيها دمشق، خسائر فادحة، والحقت ومازالت بقواته هزائم مبينة، وهي تحشر النظام في زاوية صعبة جداً ميدانياً. من غير الممكن أن يكون النظام بهذا الغباء كي يخلق وحشاً بهذه القوة ويجعله ينقلب عليه ويكاد يهزمه.
يحلو للبعض الآخر من السوريين القول ان دخول الجبهة إلى سوريا جاء كرد فعل طبيعي على الجرائم، والفظائع المهولة، التي ارتكبها النظام النيروني المجرم في سوريا، بحق الشعب السوري والمواطنين العزل، خصوصاً منهم ابناء الطائفة السنية. أي أنَّ جبهة النصرة هي وليدة روح التعاضد والنصرة الإنسانية الفطرية، التي تميز الإنسان العربي، والتي تنضوي تحت مفهوم «نصرة الأمة،« وإغاثة الملهوف فيها في الفكر الديني الإسلامي. لا يمكن للمرء أن ينكر أن مثل هذا الجانب الإنساني التعاضدي هو في الواقع أحد الأسباب الرئيسية خلف تحول الثورة من تظاهرات شعبية سلمية إلى مقاومة مسلحة ودفاع عن النفس، أدت إلى انشقاق الآلاف من جنود وضباط الجيش السوري الأحرار، ووقوفهم في صف الشعب السوري الثائر، المسالم والأعزل، ومحاولتهم حمايته. وهذا هو أيضاً السبب الوجودي والانثربولوجي الصرف، الذي لعب دوراً في دفع المواطن السوري المدني إلى حمل السلاح مجبراً، كي يحمي نفسه وأهله وجيرانه وابناء عائلته وملته، في وجه آلة النظام القمعية والعنفية القاتلة. ولكن، هذا الجانب لوحده لا يكفي برأيي ليبرر خلق كتائب قتالية جهادية من نوع جبهة النصرة في سوريا وجعلها، القلب النابض لمقاومة الشعب المسلحة، ومعركته المدمرة مع النظام. هذا وحده لا يكفي ليبرر خلق كتائب جهادية تجري كل معاركها مع النظام وبكل شراستها وتدميريتها، في قلب الأحياء السكنية المدنية المأهولة بالناس العزل والمدنيين الأبرياء، الذين من المفترض بمسلحي الثورة ومن كل الأطراف أن يحموهم ويقوهم نتائج الصراع لا أن يجعلوهم أول ضحاياه، من دون أن يأبهوا بنتائج حروب الشوارع تلك الكارثية على المدنيين السوريين قبل سواهم. لو كانت جبهة النصرة قد دخلت سوريا لنصرة المظلومين وإغاثة الملهوفين العزل المسلمين السوريين، لما كانت اختارت أن تقاتل النظام في قلب المدن المأهولة بهؤلاء المسلمين العزل، ولما كانت عملت على جعل هؤلاء وحدهم دون سواهم يدفعون من أملاكهم وحياتهم وأرواحهم الثمن الغالي للحرب الضروس بين الثورة والنظام.
فإذاً، لماذا توجد جبهة النصرة في سوريا، ولماذا هي اليوم جزء مركزي لا يتجزأ من مشهد المأساة الإنسانية والوطنية في سوريا؟ الجواب برأيي يكمن في حسابات استراتيجية وسياسية وسلطوية، تتعلق لا بالحاضر ولا بالثورة بحد ذاتها، بل تتعلق في الدرجة الأولى، بل وتدور برمتها حول، المستقبل السياسي والدولتي والسلطوي في سوريا ما بعد – الأسد. ما أريد أن أقترحه هنا هو أنَّ خلق جبهة النصرة في سوريا هدفه جر الشعب السوري راضخاً ومضطراً إلى الركون إلى لعبة «الاختيار بين أهون الشرور». وإن كانت جبهة النصرة وما تمثله من خطاب فكري ومنطق إسلاموي خلافوي (من خلافة) سلفي صرف هي الشر الأول، فإنني أؤكد أنني لا أعني بالشر الثاني النظام السوري القائم حالياً والمراهنة على بقائه. أود أن اقترح هنا أن من يمثل الشر الثاني، الأهون بحسب هذه المعادلة، هم الأخوان المسلمون السوريون دون سواهم.
منذ الشهور الأولى للثورة، كتبت مقالات عدة عنها ونشرتها في ملحق «نوافذ« تباعاً. كما أنني نشرت في الشهور الماضية كتاباً بالانكليزية عن الربيع العربي والثورة في سوريا. في مقالاتي وكتابي المذكورين، تحدثت بإصرار عن قناعتي بأن مطبخ صناعة القرار الغربي بات يعبر، بطرق مختلفة، عن رغبته الحقيقية بدعم وصول الأخوان المسلمين العرب إلى سدة الحكم في العالم العربي الجديد، ورغبته بإعطاء مشروعهم الإسلاموي فرصة إثبات نفسه بوصفه البديل المطلوب في العالم العربي، للحلول محل الأنظمة المستبدة السابقة. كررت تلك الأطروحة مرات عدة وفي مقالات عدة، وقد أثبتت الوقائع في العالم العربي، بخاصة في مصر بالدرجة الأولى، أنَّ الغرب، وعلى رأسه أميركا يدعم حكم الأخوان المسلمين ويريد له أن يحظى بفرصة الإمساك بزمام السلطة في مصر والعالم العربي للعقد الحالي على الأقل. لا يمكن للمراقب إلا أن يلاحظ هذه الرغبة ويتلمس دلالاتها من خلال تمسك اميركا بدعم الأخوان ورئيسهم مرسي في مصر (مع توجيه بعض التنبيهات الطفيفة له عبر الإعلام لتخدير الرأي العام العالمي) ووقوفها حتى هذه اللحظة إلى جانبه، بالرغم من الأخطاء الكارثية الفادحة التي يقترفها هو ونظامه في حق الديموقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني في مصر.
ما زلت مقتنعاً بأن الرغبة نفسها بدعم بديل إسلاموي أخواني في مصر تسيِّر الفكر الأميركي والغربي عموماً بالنسبة لسوريا أيضاً. فالغرب يعتقد أنه بهذا، كما قلت في كتاباتي المذكورة، سينجح بجعل الإسلامويين حليفا للغرب، بدل أن يكونوا عدواً له، وسينجح بوضع جبهة سنية قوية وفاعلة في الشارع العربي في وجه الطموح الإيراني في المنطقة (حتى يصل إلى عقد الصفقة المطلوبة مع إيران, واميركا، كما يبدو، بدأت بالبحث بمفردات الصفقة مع نظام الملالي، وهي الآن تطمئن إيران من أن الأخوان المسلمين هم بديل سني يمكن أن يكون صديقاً لإيران وليس بعدوها وهو أفضل من بديل سلفي سيعادي إيران حتماً. هذا هو سبب الغزل الحالي بين إيران ومرسي الأخوان في مصر وبضوء أخضر أميركي واضح)، كما أنه سيرضي القوى السنية المؤثرة في المنطقة، بخاصة الحليف التركي، ويجعله لاعباً مفيداً بدل أن يكون ضاراً. انطلاقاً من المنطق ذاته، دعمت اميركا وأوروبا ومازالتا فكرة وصول الأخوان المسلمين في سوريا إلى السلطة، وحلولهم محل نظام الأسد الساقط أسوة بما حدث في مصر. لهذا لم يدعم الغرب ولم يكترث منذ اللحظة الأولى من عمر الثورة بالمعارضات السورية الليبرالية والعلمانية واللاإسلاموية ولم يتواصل معها فعلياً، لا بل اهملها عن قصد وعمل على جعل الإعلام والرأي العام الغربيين يهمشون تلك المعارضات ولا يتحدثون عنها إلا شذراً ونادراً، مراهناً على أنَّ تلك المعارضات المذكورة غير موجودة فعلاً في الشارع السوري وليس لها تأثير أو عمق شعبي مدني يعوَّل عليه مقارنة بالمعارضة الأخوانية، والتي عملت أطراف تركية ولبنانية وخليجية على إقناع صانع القرار الأميركي بأنهم (أي الأخوان) القوة الشعبية والثوروية الكاسحة على الأرض السورية، وأنهم سيصلون إلى السلطة لا محالة حالما يسقط الأسد، وبأن البديل الإسلاموي الأخواني هو مطلب أقليمي من دول الطوق السني.
إلا أنَّ الشهور اللاحقة للثورة السورية أثبتت للغرب ولأنصار الأخوان المسلمين السوريين بأن الشارع السوري الثائر ليس بالضرورة شارع إخواني صرف، لا بل اكتشف الكثيرون في الحقيقة أنَّ الأغلبية الساحقة من الثوار في الداخل السوري يرددون شعارات ومبادئ، ويطرحون تصورات دولتية مستقبلية، لا تشبه فقط الشعارات والتصورات التي يرفعها الشباب المصري والتونسي، الثوريين المدنيين الرائعين، ضد الأخوان في مصر وتونس، بل وهي تردد صدى الكثير من التصورات والأفكار التي دأب المعارضون الليبراليون والمدنيون والعلمانيون، في داخل سوريا وخارجها على تردادها وإسماعها للغرب، كلما أتيحت لهم الفرصة (على ندرتها) منذ اندلعت الثورة السورية. بيّن هذا لصانع القرار الغربي أن الأخوان المسلمين السوريين قد لا يصلون للسلطة بالسهولة التي تصوروها بعد سقوط الأسد وقد لا يحظون بدعم شعبي ومدني، عام وكاسح ومبين، كما صوَّر لهم البعض. لا بل وراح الأخوان المسلمون السوريون أنفسهم يعترفون بهذه الحقيقة، قبل ظهور جبهة النصرة في سوريا بالتحديد، بعد أن أصبحت معروفة للقاصي والداني. بعد هذا الاعتراف من الأخوان وهذا الإدراك للواقع من المراقب الغربي، ظهرت فجأة جبهة النصرة في سوريا وراحت تصادر الثورة من الحراك المدني.
في ظل هذا المتغير البنيوي في معطيات المشهد السوري، وجد صناع القرار الغربي والعربي أنفسهم أمام تحد جديد، ألا وهو كيف يعملون على جعل الأخوان المسلمين في سوريا يصلون لاحقاً إلى السلطة، ويقطعون الطريق نهائياً على أي خيار سوري معارض آخر لا يخدم المعادلة الجديدة للمنطقة. ما أقترحه هنا هو أنَّ الخيار وقع على ضرورة جعل الشعب السوري يصل إلى حالة تجعله يختار صاغراً وراضياً خيار الأخوان المسلمين على مبدأ أنه «أهون الشرين». كيف سيتحقق هذا؟ سيتحقق عن طريق خلق كيان إسلاموي مواجه، أشد تطرفاً وأصولية وسلفية من الأخوان المسلمين بكثير، يتم إدخاله إلى الساحة السورية، ويتم دفعه للعب دور أساسي ومحوري في الصراع مع النظام ومن ثم يتم دفع الثورة لتتماهى مع أصولية هذا الخيار وتطرفه، عن طريق التهويل والترهيب وممارسة كل ما ينفِّر الناس، ما سيدفع الشعب السوري، الثائر قبل سواه، للنفور من هذا الواقع المتطرف والأصولي الجديد، ونبذه والتعبير العلني والعام عن قلقه منه ومن وجوده في سوريا المستقبل. أي خيار أفضل إذاً من كتائب جهادية مسلحة عنفية وأصولية تسمى «جبهة النصرة» تدخل سوريا وترسم عن إسلامها صورة مرعبة ومنبوذة ومدمرة وسلبية جداً أمام العامة في سوريا، ولا تكتفي بالعمل الجهادي العسكري ضد النظام القاتل (الذي من المفترض أنها دخلت البلد كي تحققه دون سواه) بل تبدأ بإعلان مشروع سياسي متكامل عن سوريا المستقبل (وكأنها تقول انها جاءت لتبقى) يقوم على فكرة الخلافة الإسلاموية، وحكم الشريعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك المبادئ والأفكار التي لا يمكن (كما يعلم كل المعارضين السوريين، بما فيهم الأخوان المسلمين) لأي سوري أن يقبلها أو ينتخب أي مرشح للسلطة على أساسها، والتي لم يثر السوريون لتحقيقها ولم يدعوا لها (ولا حتى الأكثر تديناً بينهم) منذ اللحظة الأولى للثورة وحتى اليوم. لا بل وترينا الأيام أن كتائب الجبهة المذكورة قد بدأت تطبق على الأرض نماذج حياتية وممارساتية على الشعب السوري في المناطق التي احتلوها تمعن في المدى الأبعد في تنفير الناس من تلك الخلافة وإرهاصاتها: فالمطلوب هو التنفير في الأساس.
أي خيار أصولي وعنفي وتكفيري وطائفي وسلفي وظلامي ونكوصي أسوأ من الخيار الذي تقدمه جبهة النصرة يمكن أن يخدم استراتيجية «اختيار أهون الشرين»؟ في الحقيقة، لا يوجد أفضل من خلق كيان مثل جبهة النصرة ليقف على التضاد مع تقديم الأخوان المسلمين السوريين لأنفسهم أمام الرأي العام بصورة المعتدلين والداعين لدولة مدنية تعددية في سوريا. ولا يوجد أفضل من هذا التضاد الإسلاموي، بين طرفين يشبهان بعضهما في العقيدة والجوهر ويختلفان عن بعضهما في الأسلوب والمنهج، كي يجعل الشعب السوري في المستقبل يقول لنفسه: إن كان الخيار الوحيد أمامي في سوريا المستقبل هو بين الأخوان المسلمين وجبهة النصرة، فإن نار الأخوان المسلمين أرحم بكثير من أتون جبهة النصرة.
في ضوء الأخطاء الفادحة والفشل الذريع الذي تعاني منه حكومات الأخوان المسلمين البديلة في دول الربيع العربي، لم يعد بإمكان الغرب أن يسوق بسهولة الأخوان كبديل مقبول وناجح وموثوق أمام الشارع العربي، ولم يعد بإمكانه فعل ذلك في سوريا بالتحديد، لأن الشعب السوري يراقب بدقة وحرص ما يجري في مصر وتونس وهو يقول لنفسه: إن كان هذا هو ما سيكون عليه حكم الأخوان، فنحن حتما لا نريده ولا نريد أن نقف وراءه في أية ثورة. لم يبق أمام الغرب وتركيا وقطر ومحاولتهما دعم الأخوان المسلمين كبديل عن الأنظمة الساقطة وتسويقهم في سوريا سوى خيار واحد هو السماح لجبهة النصرة بالوجود والاستمرار في التأثير على الساحة السورية ولعب دور محوري في المشهد السوري الحالي، على أمل أن مقارنة الشعب السوري بين الجبهة والخيار الآخر الذي يدعمه الغرب وقوى المنطقة، أي الأخوان المسلمين، ستدفع الشعب السوري صاغراً لقبول الأخوان المسلمين كبديل.
لا يكمن الخطر الحقيقي في جبهة النصرة برأيي في تسلحها وقوتها العسكرية الحالية، الخطر يكمن في الدور الذي ستلعبه في الحراك السياسي في المستقبل. في المستقبل السوري الآتي، وبعد خلاص سوريا القريب من نظام الأسد المجرم والمتوحش، سنشهد تحولاً لجبهة النصرة، وبدعم قوي من راعيتها الأولى قطر، سيطلب منها التخلي عن سلاحها وسيُعمَل على تأهيل عناصرها للتحول من كتائب قتالية إلى فصائل عمل سياسي تحت تسمية «التيار السلفي الإسلاموي» في سوريا. وسيتم فرض الجبهة كلاعب سياسي في المشهد السوري يتابع تحقيق استراتيجية «أهون الشرين»، بأن يلعب هذا التيار الجديد دوراً مشابهاً لدور التيار السلفي في كل من تونس ومصر: الوقوف دوماً أمام الرأي العام الداخلي كبديل سياسي متطرف وإقصائي وشديد الإسلاموية، جاهز دوماً للاستيلاء على السلطة، على التضاد مع الأخوان المسلمين الذين سيعمل العالم العربي والرأي العام الغربي على تصويرهم دوماً بأنهم وجه الإسلام المعتدل والتعددي والمدني الأنسب. سيجد الشعب السوري نفسه تحت رحمة تلك المسرحية الهزلية المؤذية التي تقوم على دفعه دوماً للركون رغماً عنه لبديل الأخوان المسلمين، حماية له من الوقوع تحت رحمة البديل السياسي الجديد السلفي، الأشد أصولية وظلامية. وكما تنجح لعبة الصراع «الأخواني-السلفي» في مصر وتونس حتى الآن في إنقاذ ماء وجه الأخوان، وجعل أنظمتهم تنجو وتستمر، هناك من يعتقد أنَّ اللعبة نفسها ستنجح في سوريا أيضاً: لما لا، يقول هذا الاعتقاد، والناس في سوريا قد بدأت منذ الآن تعبِّر بقوة عن قرفها ورفضها الشديدين للبديل الإسلاموي المتمثل بجبهة النصرة، وهي لا بد وأن ترفض لاحقاً البديل السياسي والحزبي السلفي الأصولي، الذي سيولد من رحم جبهة النصرة بعد الثورة، وأن تجد نفسها مضطرة لإعطاء الأخوان المسلمين الفرصة التي يريد لهم الغرب قبل سواه أن ينالوها.
يبقى السؤال هنا عن موقف المعارضات السورية الليبرالية والعلمانية من مثل هكذا سيناريو، وما إذا كانت تلك المعارضات تحاول أن تبني تصوراتها للمستقبل السوري آخذةً إحتمال وجود هذا السيناريو في الاعتبار. أتمنى على المعارضات السورية الليبرالية والعلمانية والمدنية في الداخل والخارج، ومن أي طرف كان، أن تعمل على تخليص الشعب السوري وسوريا الوطن من محاذير ونتائج لعبة «الاختيار بين أهون الشرين»، الكارثية والمدمرة، بأن يعملوا على توحيد الصفوف وتناسي الخلافات والحسابات الشخصية والإيديولوجية والمرحلية والبراغماتية الضيقة، ويبدأوا بناء جبهة إنقاذ سورية جامعة وشاملة لكل القوى المدنية والليبرالية والعلمانية في المشهد السوري، وأن تفعل هذا منذ الآن لتقف في وجه وقوع سوريا في فخ «إما الأخوان ومشروعهم» أو «السلفيون الجهاديون أمثال جبهة النصرة وأجندتهم». هل من مستمع لصوت متواضع من مواطن سوري بسيط لا حيثية له ولا منصب ولا موقع صنع قرار؟
() كاتب سوري واستاذ في جامعة هارتفورد الأميركية