لئلا يكون المجلس الوطني حجر عثار
بطرس الحلاق
«وطننا لم يعد لنا أما، بل قبرا. لا ترى من يبتسم فيه إلا معدوم الضمير» – من مسرحية هامليت لشكسبير.
بعد الإعلان عن قيام المجلس الوطني السوري، توالت رسائل التأييد من مختلف جهات الداخل والخارج، وانتعش بعض أمل. إن دلّ ذلك على شيء فعلى الرغبة الملحة لدى الجميع على توحيد المعارضة لكي تتمكن أولا من حماية المواطنين، وثانياً من حسم المواجهة القائمة لمصلحة الشعب. لن يبكي أحد على سلطة لم يعرف تاريخ سورية الحديث أشرس منها، ولا تستطيع أن تتباهى إلا بإنجاز أوحد: جهاز قمعي يجمع إلى تعقيد الحداثة أعتق أساليب الإنسان البدائي. تخطئ، والحالة هذه، القوى المتمثلة في المجلس إذا اعتقدت أن الإجماع على توحيد المعارضة هو إجماع على تأييد المجلس. فقيامه قد يكون بداية متميزة إذا أدرك معنى الرسالة الموجهة إليه وتصرف بوحيها، وقد يكون منزلقا إلى هاوية لا قرار لها. عليه أن يختار بين كونه حجر الزاوية وحجر عثار.
إنجازه الأكيد هو في وجوده بالذات، وما عدا ذلك أسئلة لا جواب عليها. يعبئ قطاعاً من الشعب، لكنه يثير أضعاف ذلك من مخاوف وشكوك لدى قطاعات أخرى. والمحك عندي ليس في هوية الأشخاص القيمين عليه بل في النهج والبنية. فالأحزاب المنضوية تحت لوائه هيهات أن تمثل الأغلبية الحزبية في البلد، كما أن الحزب المهيمن عليها إشكالي. ولا يعوّض عن هذا الخلل شيء: فلا رموز يركن الناس إليها، إلا وجه رياض الترك الذي يحظى باحترام الجميع وإن أثارت استراتجيته السياسية كثيراً من التحفظات، ولا مشروعاً وطنياً يطمئن الناس إليه. وأدهى من ذلك كله دعوته، التي جاءت مبطنة في بيان المجلس الختامي ثم صريحة على لسان بعض أركانه، إلى تدخل خارجي حتى وإن كان عسكرياً. ولهذه الدعوة مقدماتها: فالمجلس نتيجة مخاض طويل كانت “دايته” تحالف خليط من قوى تدور في الفلك الأميركي الذي لا يسعى إلا إلى الحفاظ على مصالحه مهما كان الثمن، وأياً كان لون الرئيس الأميركي.
لا نستطيع أن نغفل أمراً جاثماً في المتخيل السوري المعاصر، وهو أن الإخوان المسلمين جزء من المعادلة المسؤولة عن أحداث حماه التي يخيم شبحها على العقول منذ ١٩٨٢ إلى يومنا هذا. فإن كانت مسؤولية السلطة باهظة في تدبير مثل هذه المذبحة، فإن مسؤولية الإخوان تقوم على عماء سياسي فئوي جعلهم يقعون في فخ مدبر لهم، حسب تحليل من واكبوا الأحداث عن كثب. كيف نركن إلى حكمة من ارتكب مثل هذا الخطأ الذي رسخ السلطة وأولاها لدى الغرب «الديموقراطي» شرعية «حضارية» في الدفاع عن القيم الإنسانية؟ وكيف يركن المجتمع السوري، ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين، إلى حزب لا يزال يعيش على تصور يرجع إلى بداية القرن العشرين، ولم يمثل في أحسن حالاته أكثر من سدس المواطنين حتى في تلك الحقبة؟ أصرح بما يعرفه الكثيرون وإن سكتوا عنه، وقد يشفع لي – إن كنت بحاجة إلى مبرر غير الوطن – أني كنت من بين خمسة عشر نفرا، على آلاف من الطلاب السوريين في باريس آنذاك، تجرؤوا على التظاهر علناً احتجاجاً على مذبحة حماه، في وقت كان كابوس كلاب النظام يرعب الجميع. وقد يشفع لي أني، بوصفي رئيسا للجمعية العربية لحقوق الإنسان في فرنسا آنذاك، أدنت تدخل الجيش الجزائري عام ١٩٩٢ لحرمان جبهة الإنقاذ من نصرها الانتخابي، فأثرت عاصفة من الاحتجاج لدى الأصدقاء “التقدميين”. فلا مساومة على إنسانية كائن من كان، ولا على صوت الشعب. هيهات أن أدعو إلى استبعاد قطاع مهم من المجتمع السوري! لا، وألف لا، فكل استبعاد تعبئة لحرب أهلية، هي في ذاتها الحرام الحرام.
ما أدعو إليه، سبق أن طرحته مع مجموعة من الأصدقاء في ندوة الدوحة المنعقدة في أواخر تموز (يمكن العودة إلى تسجيلاتها). آنذاك، حمي الجدال بين مشروعين. كان الفريق المتمثل أساسا بمجموعة الإخوان المسلمين – ومعهم أحد رموز المجلس الحالي بعد أن انقلب على هيئة التنسيق – يكتفى بمقولة «قلب النظام وبعد ذلك نرى». وكان فريقنا يدعو إلى الاتفاق على برنامج سياسي أولي ملزم لكل أطراف المعارضة (أو ميثاق شرف)، قادر على تعبئة الأغلبية العظمى من المواطنين، بحيث ترجح الكفة المطالبة برحيل النظام. لم ندع إلى صهر المعارضة في بوتقة واحدة، بل إلى التوحد حول برنامج مشترك، وليحتفظ كل تيار بخصوصيته، ففي التعددية ثراء، ولا استثني من ذلك تياراً إسلامياً حديثاً يعبر عن الإسلام الشعبي السمح ويتبرأ من لوثات الوهابية السياسية فيحتكم إلى الوطن والمواطن، كما فعلت الأحزاب الديموقراطية المسيحية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان واضحا من المعلومات المتوفرة (ولا تزال هي هي) أن المساندين للحراك يمثلون ٦٠ بالمئة من السكان بينما ٤٠ بالمئة لا يزالون إلى جانب السلطة. توازن نسبي لا يعطي الغلبة لأي طرف، ويؤدي إلى أحد أمرين: إما أزمة تطول أشهراً وسنوات تنزف خلالها قوى البلد، وإما حرب أهلية مدمرة تنحى المنحى العراقي أكثر بكثير من المنحى الليبي (وقد تجاوزت ضحاياه خمسين ألف مواطن من دون أن يحل أياً من المشاكل الأساسية). ولا سبيل إلى ترجيح كفة المعارضة إلا بالأخذ بعين الاعتبار مطالب الفئة الأخرى المشروعة. ليست هذه الفئة موالية للنظام بأي حال. فالنظام لا يدافع عن طائفة ولا عن قيم، بل عن مصالح أسروية ضيقة أشرك فيها منتفعين من الطوائف كافة، لا يمثلون إلا القلة القليلة التي قد لا تتجاوز بضعة آلاف. أما الآخرون ففي حالة هلع من أن تحل دكتاتورية محل أخرى، أو أن تقوم حرب انتقامية بين الطوائف، وبالتدقيق بين الأكثرية والأقليات. وهؤلاء هم من يجب استمالتهم إلى جانب الثورة لينكشف الغطاء كلياً عن السلطة. وأفضل طريقة لاستمالتهم هو رسم معالم واضحة للوطن المرتقب. بذا يمكن تجنب الكارثة التي رأينا نتائجها المدمرة في الجوار من لبنان إلى العراق وحتى في الخيار الليبي. وبذا أيضا نبقى أمينين لمشروع الشبيبة كما عبرت عنها طليعتهم الأولى، التي أدركت السلطة قدرتها الفعالة في توحيد المجتمع فعمدت إلى تصفية من استطاعت أن تطاله منها. ندعو إلى برنامج عمل مشترك لبناء سورية الجديدة، ويكتفون بالدعوة للإلتفاف حول هدف واحد، هو إسقاط النظام، بعدها تصفّى الحسابات.
لم نجترح اختراقاً هائلاً في الفكر السياسي، بل قرأنا الواقع وأخذنا العبر من الثورات المنتصرة في التاريخ الحديث؟ في جنوب إفريقيا، اختار نيلسون مانديلا أن يطمئن الأقلية البيضاء المتسلطة بالتوافق مع جهازها الحاكم نفسه على مشروع وطني، فجنب البلاد مزيداً من الدمار بحرب أهلية لا نهاية لها، فتمكن بخطته الصارمة أن يقوض النظام العنصري. أما في فرنسا المقاومة للنازيين، فقد استطاع الجنرال ديغول، وهو المسيحي المعتقد، أن يتفق مع الشيوعيين والاشتراكيين والمجموعات اليهودية الوطنية والمستقلين (وما أشدّ التباين ما يبنهم) على مشروع وطني – هو برنامج المجلس الأعلى للثورة – اطمأنت إليه فئات الشعب الفرنسي كافة فتبنته. بذا جنب البلاد اقتتالاً داخلياً. بل ذهب أبعد من هذا بكثير. فطرح شعار مفاده أن الشعب الفرنسي بجملته مقاوم للنازية، إلا فئة من المسؤولين، مع علمه الأكيد أن السواد الأعظم تكيف مع المحتل النازي. بذا جلب إلى معسكر المقاومة قوى الشعب الفرنسي وأسكت المترددين، مترفعاً عن الانتقام الأعمى، واكتفى بمحاسبة كبار المسؤولين بجريمتهم. وبعد أن نجح في هذه المهمة، تمكن من تنفيذ كافة بنود برنامج المجلس الأعلى للثورة على المستوى السياسي بإحلال الديموقراطية، والاجتماعي بتأسيس الضمان الصحي والاجتماعي وحقوق العمال، والاقتصادي بتشجيع الرأسمال الوطني، كما على المستوى الثقافي والفكري إذ هيّأ العقول للقبول بفك الاستعمار ولاتباع سياسة مستقلة حتى عن حلفائه البريطانيين والأميركان. وحد الشعب ونهض بالبلاد. فهل أخطأ في اختيار هذا الطريق؟
لا بد لنا من التسامي عن عصبياتنا الفئوية وطموحاتنا الفردية للاتفاق على برنامج وطني شامل، أصبحت كل بنوده معروفة: وحدة سورية أرضاً وشعباً في إطار ثقافة عربية حرة تعترف بالثقافات والقوميات المحلية، استقلالية القرار الوطني، دولة الوطن والمواطنة التي تضمّن الحرية للجميع وتدافع عن المصلحة العامة من دون تمييز لأي طائفة أو أيديولوجية أو قومية، دستور حديث يراعي كافة متطلبات القوانين الدولية الموقعة وعلى رأسها المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة والحرية الفردية ضمن إطار القانون، إقامة اقتصاد متكافئ ينمي الثروة والكفاءات الوطنية ويؤمن للجميع العدالة الاجتماعية (حق العمل والضمان الصحي والاجتماعي) والمشاركة في القرارات الاقتصادية، إقامة نظام تربوي متكامل في مراحله كافة يتماشى مع متطلبات العصر. ويترتب على ذلك بطبيعة الحال فصل السلطات الثلاث فصلاً تاماً وإعادة الجيش إلى دوره الطبيعي ليحمي حدود الوطن ويضمن احترام الشرعية المنبثقة من الشعب.
فهل في مثل هذا البرنامج إحراج لأحد أو إجحاف بحق أحد؟ فليبادر المجلس الوطني إلى تبني هذا الاتجاه، وليدع إليه “هيئة التنسيق” (بدل اتهامها بالتواطؤ مع السلطة لمجرد بقائها في الداخل) ومؤسسات المجتمع والدولة كافة، فيوحد الصفوف ويحصن الجبهة الداخلية فيستعيض بها عن الاستقواء بالقوى الخارجية، إقليمية كانت أم عربية أم أجنبية. ولتقم هيئة وطنية موحّدة تفرض هيبتها على الخارج وتستنهض قوى المجتمع المدني في العالم (دون الدول، فلتلك مصالح لا غير ولا تقيم وزناً للقيم الانسانية) وتجبر السلطة القائمة على الامتثال لإرادة الشعب الموحد. وإن لم تفعل واكتفت بالتحريض دون توضيح الأهداف، ستخيب أمل من عقد عليها الآمال، وقد تكون الخيبة ضربة قاضية على هذه الثورة المدنية فيذهب نضالها هباء. فهل تستطيع أن تتحمل مثل هذه المسؤولية؟
ثورة الشبيبة بشرى بعصر جديد يبنيه الشعب بقوته الداخلية بعد قرن من نضال قاده مثقفون وأعيان وضعوا ثقتهم بالأجنبي فخذلهم (ابتداء بالثورة العربية الكبرى مع الأمير فيصل). فهل نرتد بها إلى زمن المناورات والانقلابات تحت رايات أجنبية جلبت علينا الوبال منذ أول انقلاب عسكري؟ شبابنا يناضل باليد العارية فهل نترك دمه ينزف إلى ما لا نهاية ونكتفي بالتصفيق له من خلال المؤتمرات ومواقع الانترنت؟ جنودنا وضباطنا المنشقون يواجهون مأساة مرعبة: إما أن ينصاعوا لأوامر ظالمة فيستبيحوا دم أهلهم، وإما أن ينصاعوا لصوت ضميرهم فيواجهوا مصيراً هائلاً. إنهم في وضع بطلة سوفوكليس، أنتيغونا، ما بين أوامر الحاكم الظالم وبين صوت ضميرها الذي حتم عليها الموت. فهل نتركهم يواجهون هذه المأساة الدهرية التي لا قبل لهم بها؟ وطننا على شفير الهاوية، فهل نسعى إلى إنجاز نصر موقت على حساب الوطن، أم نتسلح بالحكمة والمسؤولية لنصل معا إلى الهدف؟ تحييد الظالم ضروري ولكن الهدف أبعد: اقتلاع أسس الظلم والتسلط التي تكمن في النظام القائم كما في كل مؤسساتنا وتكويننا التقليدي، ومنها مؤسسات المعارضة، – ذلك ما يدعونا إليه حراك الشبيبة العربية بأكملها. على كل منا أن يتحمل مسؤوليته التاريخية. أكثر من مرة رددت طلب زملاء بالمشاركة في الإعداد لهذا المجلس الوطني. وكم أتلهف إلى الانضمام إلى هيئة وطنية جامعة تستند إلى مشروع أولي مشترك وتنتخب ممثليها بكل شفافية، وليحتفظ كل تيار بخصوصيته، بما فيه تيار إسلامي حديث يعبر عن إسلامنا الشعبي الإنساني، كما أحببناه في سورية بخاصة وفي المشرق العربي بعامة.
«وطننا أصبح قبراً» لنا جميعاً، وها يفغر فاه «ضاحكا من تزاحم الأضداد» كما يقول شاعرنا الفيلسوف المعري وكان، على انطفاء بصره، منفتح البصيرة. فإيانا أن نعدم البصر والبصيرة معاً. لن ينقذ أحد منا رأسه مفرداً. ففي الحرب الأهلية لا غالب إلا الموت ولا مغلوب إلا الوطن، – حقيقة طالما ذكرنا بها شعراء إسبانيا المناضلون في صفوف الجمهوريين ضد فرانكو.
من له أذنان سامعتان فليسمع! ولا أكثر صمماً ممن يأبى أن يسمع.
صح: ما إن انقضى يومان على كتابة هذا النص، حتى ظهرت بوادر التفرقة. من ستوكهولم إلى باريس، يحاول المجلس الوطني أن يستأثر كلياً بحق تمثيل المعارضة بكل الوسائل، من ضغوط فردية واستبعاد وتأليب أجهزة وزارات الخارجية الغربية على ممثلي هيئة التنسيق. فهل بذا تنجح ثورتنا المدنية؟ وهل بهذا النهج التسلطي نقاوم التسلط ونبني الديموقراطية؟ وهل بشعارات فضفاضة عن المساواة ومدنية الدولة نعد أنفسنا لتنجنب ما يشتعل في مصر من غضب طائفي تخاف المؤسسة العسكرية أن تعالجه خوفاً من الإسلاميين؟ – صدق عمر بن الخطاب حين صرخ بأحد مقرّبيه: «ما هكذا، يا سعد، تورد الإبل».
السفير