لاجئون/ عقل العويط
هؤلاء الخارجون من بيوتهم بأرواحٍ عارية؛ المتساقطون من عيون أمهاتهم وحبيباتهم؛ المهجورون من نظراتهم وشفاههم ومشاعر أيديهم؛ المشلَّعون المحمَّصون تحت الحرائق وتحت هزائم الله؛ المذبوحون في الهدوء المريب؛ المنتظرون مراسم الذبح على مذابح بكماء؛ المرميون في أغاني اللعنة والعدم؛ المتلفّعون بغمامات أوجاعهم؛ المترعون بكؤوسٍ مسمومة؛ هؤلاء المستغيثون بالزيتون وشجر الرأفة؛ الباحثون عن عصفورٍ يرشدهم في أول الأوهام، في آخر الأوهام…؛
أنا الخاسر يقظة الحلم ورغبات الصباح، ألا ينبغي لي أن أرتجل لهم حكايةً، أو ابتسامة؟ ألا يجب أن أسعف سماءهم بقمرٍ حزين؟!
هؤلاء المعطوبون بربيع وجودنا؛ الماثلون أمامنا، الهاربون فينا بعيونٍ مفتوحة؛ المسروقون من أجسادنا ولغاتنا؛ المفرَغون من ماء مآقينا؛ المرسومون على الظلال بخطوطٍ واهية؛ المقتولون بسببٍ من ياسمينم وعطورنا؛ المنشغلون بأشعة الآفاق المهدورة؛ الموسومون بتأوهات الهواء وشمس الفزع؛ المجموعون في مقابر ساهرة…؛
مَن ينقلهم إلى أسرّتهم وتراب أهاليهم، ليحلموا قليلاً وكثيراً، قبل صعود الوقت إلى سدرة مآسيه؟
هؤلاء المطعونون بذواتنا وكياناتنا؛ الباحثون عن لقمة ضوء في عتمة الله والدين؛ تسمّيهم الحكمة شهوداً وكتباً؛ يسمّيهم الوجود مواسم تفّاح.
للسماء أن تخجل. للأرض أن تكتئب.
لن أجد مساءً يتسع لخيباتهم. ولا فجراً يليق بتفتّح عيونهم.
ألا ينبغي لي أن أخترع حياةً، أو قصيدةً، أهاجر معهم إليها؟!
هؤلاء هم مرايايَ. وأسمّيهم جروحي وهزائمي. أَلاَ ينبغي لي أن أسمّيهم أيضاً توائمي ونفوسي؟!
* * *
يمكننا أن ندبّج بيانات التعاطف معهم؛ أن ننشر رسائل التنديد من أجل حضّ المجتمع الدولي على النظر في قضيتهم؛ أن نفتح لهم مخيمات الذلّ؛ أن نرسل إليهم المعونات الغذائية والطبية؛ أن نعرب عن الأسى المتفجع على شاشات التلفزة، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ وأن نلتقط صوراً تذكارية مع أطفالهم وموتاهم.
يمكننا أن نكون مطأطئين أمامهم. يمكننا ربما أن نفعل الكثير من أجلهم. لكن المطلوب شيءٌ واحد: أن يعودوا إلى بيوتهم الأمينة؛ أن يناموا تحت سقوفها بطمأنينة؛ أن يحلموا برفاهٍ وسعادة؛ وأن يستيقظوا مع صياح الديكة بقوة الأمل والكرامة والحرية.
هؤلاء لا يريدون شيئاً آخر: فقط أن ينتهي هذا الكابوس. وأن يعيشوا أحراراً، وبالكرامة المطلقة.
يمكننا أن نسمّيهم لاجئين؛ مشرّدين؛ نازحين؛ مطرودين؛ ملعونين؛ قتلى؛ وشهداء.
يمكننا أن نسمّيهم سوريين، وعراقيين. وقد سمّيناهم قبلاً لبنانيين وفلسطينيين.
تجمعنا وإياهم الكرامات الممعوسة؛ والأحلام الممعوسة؛ والمصائر الممعوسة.
فلنصنع قهوةً ترشد مسامّنا إلى ياسمين ظلالهم المهجورة!
* * *
عنصريات جمّة؛ هوياتية، سياسية، فكرية، إنسانية، وأخلاقية، تترافق مع مسألة اللاجئين السوريين في لبنان، وفي سواه من دول المنطقة والعالم.
مدانةٌ كلّ العنصريات هذه. علناً. وبقوة. يجب مقاصصة كلّ مَن يرتكب شناعةً كهذه. أياً يكن.
لكن مهلاً. إذ ممنوعةٌ، قانونياً وأخلاقياً وثقافياً، ممارسة أيّ نوعٍ من أنواع العنصرية في هذا الموضوع، وفي سواه، يجب ألاّ يعني ذلك على الإطلاق، عدم مناقشة هذه المسألة الوجودية والكيانية والإنسانية والثقافية والسياسية الخطيرة، بما تستوجبه من عقلانية ووعي وحكمة ومسؤولية.
مهلاً أيضاً. ليس “كل اللاجئين” لاجئين.
مهلاً أيضاً. ليس كلّ من يتطرّق إلى إثارة موضوع اللاجئين هو عنصري.
في المقابل، يجب التنبّه إلى عدم الانزلاق إلى هذا النوع من الابتزاز الثقافي الذي ينطوي على ترهيب كبير. ثمة من هذا الابتزاز أمثلة كثيرة، لبنانية وسورية في آن واحد، يجب لجمها، والحؤول دون استفحالها، والوقوع في فخاخها، ومنطق ردود الأفعال الناجمة عنها.
ليس أهون من تحويل العيون والعقول عن حقيقة المآسي مطلقاً. فلننتبه جميعنا إلى وجوب عدم جعل هذه المأساة قميص عثمان آخر.
من هذه الجهة أو تلك، ثمة مأساة موضوعية كبرى. فمن جهة، هي مأساة سورية. ومن جهة ثانية، هي مأساة لبنانية.
يجب ألاّ يغيب عن أحد، وجها المأساة، هذان، معاً وفي آن واحد.
في حضرة “داعش” والأسد، بمؤيديه ومنقذيه، كلّنا سجناء، مهجَّرون، نازحون، قتلى، وشهداء.
في غياب الحرية، كلّنا في منفى. وكلّنا، في غيابها، لاجئون!
النهار