صفحات الرأي

لاجئو الأنظمة العربية سيرة شعوب يطاردها الموت


شاكر الأنباري

اتصل بي صديق سوري من قرية حدودية عراقية، تقع في المنطقة المقابلة لمدينة القامشلي، وأخبرني انه التجأ الى كردستان العراق هرباً من القتل الذي تتزايد وتيرته في سورية كل يوم. وبعد ان التقيت به في “دهوك” حدثني عن رحلته الشاقة التي بدأت من مدينة دمشق، ثم القامشلي، وانتهت بعد مسير ليلي امتد عشر ساعات في الجبال، والوديان، الى ناحية صغيرة قرب مدينة دهوك. ورافقه في هذه الرحلة عشرات العائلات والشباب فارين من جحيم الأسد، المتصاعد أواره كلما شارف النظام على النهاية. أغلبية الفارين من الكرد، مع نسبة قليلة من العرب.

سيناريو اللاجئن السوريين الى تركيا، ولبنان، والأردن، وأخيرا العراق بقسميه الكردي والعربي، ليس السيناريو الأول في هجرة الشعوب العربية. انه محطة جديدة في طريق طويل يكشف عن هشاشة الوضع في المنطقة، وقسوة الأنظمة الحاكمة، وتواطؤ الدول الكبرى، والتخلف البنيوي لآليات الدولة، التي تهتز سريعاً، وجذرياً، ما أن توضع على المحك. وكأن تاريخ هذه المنطقة هو تاريخ هجرات شعوبها، وتمزقات نسيجها الانساني، ومعاناة ملايين لم تدون أسماؤهم في الصفحات السود للمنطقة.

عادة ما تهاجر الشعوب نتيجة لكارثة طبيعية كالزلازل والفيضانات والمجاعات والأوبئة، إلا ان اللافت في هجرات الشعوب العربية عادة ما تجيء هرباً من موت محقق، موت فردي، وعائلي، وطائفي، وديني، وسياسي، نتيجة موت جماعي يتهدد مجتمع برمته، لا يلبث أن يغير من نسيجه، ويبتدع تشوهات روحية تترك آثارها جيلا بعد جيل. هجرات بعض الشعوب كانت لها مسارات تشبه الكوميديا المضمخة بتفاصيل تراجيدية، كنزوح الشعب الفلسطيني في منتصف القرن الماضي، إبان قيام دولة اسرائيل، وتشتته في بلدان عربية مجاورة أو قريبة، كسورية ولبنان والعراق ومصر والأردن. عميد اللاجئين العرب (الشعب الفلسطيني)، سرعان ما عاد ليدخل في حلقة مفرغة من اللجوء، والقتل، والاقتلاع. في العراق، على سبيل المثال، استقر آلاف من الفلسطينيين بعد قيام دولة اسرائيل، واندمجوا كليا في المجتمع، لكن بسقوط نظام صدام حسين تعرض الفلسطينيون، لأسباب سياسية وطائفية، الى موجة من القتل، والنبذ، والمطاردة، جعلتهم يغادرون العراق مرة أخرى، وها هم يقيمون في مخيمات بائسة غير انسانية على الحدود بين سورية والعراق، اذ لم يستقبلهم أي من البلدين. وقد تضاءل الوجود الفلسطيني في العراق الى حدوده الدنيا، بعد ان ارتبط اسمه ب”الارهاب” خلال الاحتلال، والاحتراب الطائفي المتواصل بطرق أخرى حتى هذه اللحظة.

فلسطينيو سورية، بخاصة في مخيم اليرموك وفلسطين، انحازوا الى الثورة السورية، وبدأوا يدفعون ثمنا غاليا لانحيازهم، وانشق ضباط كبار من جيش التحرير الفلسطيني، صنيعة نظام سورية، وهم اليوم يستقبلون لاجئين سوريين في مخيماتهم قدموا من المناطق المجاورة كحي التضامن، والزاهرة، والقدم، والحجر الأسود، والريف الدمشقي عامة. لاجئ يستقبل ابن البلد، في كوميديا سوداء لا تتكرر في التاريخ الا كل ألف عام مرة واحدة. هنا حيث يتحول اللاجئ الى رقم في بورصة الأنظمة العربية التي تورطت بها الشعوب منذ قرن من الزمان. الجريمة التي تتسبب بها الأنظمة الاستبدادية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك لنفاد صلاحيتها في تسيير شؤون الشعوب، هي أنها تخلخل نسيج المجتمع بالدرجة الأساس، حيث تتمزق الحياة اليومية، والأحلام، والمشاريع، لكي تنحدر الحياة الى هاجسها الغريزي لا غير، الا وهو الحفاظ على الذات، مما يقضي تماما على التمايز الفردي، ويحدث قطيعة بين جيل وآخر، وبين ذاكرة فردية وجماعية. الشعوب التي تدخل في دوامة اللجوء، والتشرد، والارتحال، سرعان ما تفقد وحدتها، وتفقد طقوسها المشتركة، وذاكرتها الجمعية، وهويتها تاليا، مما ينتهي بها الى الذوبان لاحقا في أمكنة الاستقرار الجديدة.

حتى العام ألفين وثمانية سجلت المنظمات العالمية ما يقرب من أربعة ملايين ونصف لاجئ عراقي في العالم، وهو رقم مخيف لشعب لا يتجاوز تعداده الثلاثين مليون نسمة. بدأت دراما اللجوء العراقي منذ الحرب بين ايران والعراق، وتصاعدت وتيرتها بعد الاحتلال والعنف الطائفي، فاقتلع مثقفون وأكاديميون وأطباء ومهندسون من نسيجهم الاجتماعي وتشتتوا في بيئات متباينة التطور، وهذا ما أفرغ البلد من الكفاءات بصورة حادة، كما شتت الذاكرة الجمعية للشعب، وأجج الصراعات الطائفية والعشائرية والمناطقية، وساهم في احداث قطيعة معرفية بين اللاجئين والمقيمين في الداخل. نتج عن كل ذلك شروخ نفسية، وروحية، لن تشفى بسهولة. وما ان تصاعدت الأحداث في سورية، وهي تعتبر الأكبر بين الدول التي يقيم فيها لاجئون عراقيون، حتى اضطر هؤلاء من جديد الى العودة الى بلدهم. لكن العودة لن تكون سلسة كما يعتقد، فالرجوع الى كنف البلد لا يقرأ فقط كانتقال مكاني فيزيقي للفرد، انما هو، وكما يفترض، رجوع الى بيئة مألوفة مسالمة حاضنة، وهذا ما لا يتوافر في العراق. لقد تغيرت النفوس كثيرا خلال العقد الأخير، وسيعيش العائد الى بلده غربة عميقة قد لا يستطيع هذا الجيل تجاوزها بسهولة.

والهجرات الجماعية عادة ما تنتج ظواهر نوعية في الضحايا، وهذا ما جرى في الهجرة اللبنانية الضخمة في عقد الثمانينيات خلال الاحتلال الاسرائيلي لبيروت والحروب الطائفية المتتالية، حيث أن من هاجر في الطوفان الكبير لم يعد الى البلد في الغالب، واتجه لتأسيس حياة أخرى في المهجر، وحين يعود الى البلد يعود كسائح فقط. وكذلك ما جرى لشعب كردستان العراق، بعد فشل الانتفاضة عام ألف وتسعمائة وواحد وتسعين، اذ سبّب دخول الجيش العراقي الى كردستان في تشرد ملايين الكرد في الجبال والوديان خوفا من قمع البعث وغازاته الكيمياوية، ولم تحل المأساة الا بعد أن فرضت أميركا حظرا جويا فوق الاقليم. ومنذ ذلك التاريخ لم يعد الشعب الذي عاش مرارة الهروب هو نفسه، اذ شكل ذلك التاريخ هوة عميقة في الوجدان الكردي، سواء مع نفسه او مع الشعب المجاور المتسبب بالمأساة، وهنا هو الشعب العربي في العراق. واللوم طبعا لا يقع على الشعب الكردي او الشعب العربي في العراق بل على النظام الذي فشل في ادارة البلد، وراح بسبب الفشل يدخل في نفق مظلم، ما أن يخرج منه حتى يقع في نفق أشد ظلاما. وهذا ما يعيشه الشعب السوري في هذه المرحلة. الشعب المشتت في لبنان وتركيا والعراق والأردن، هربا من مذابح الجيش الوطني التي لم يكن يتصورها عاقل، أي أن جيشا وطنيا يوجه مدافعه، ودباباته، وطائراته، الى مدنه ليخرب ما بناه السوريون خلال تاريخهم الحديث كله.

في حرب تموز التي شنتها اسرائيل على لبنان استقبل السوريون مئات الآلاف من اللبنانيين كلاجئين، واستقبلوا أضعافهم من العراقيين، وكذلك الفلسطينيين، وها هم اليوم يرجعون الى نقطة الصفر، الى المحك الحضاري الذي قادهم اليه النظام، في أن يتحولوا هم ذاتهم الى لاجئين سواء خارج البلد او داخله. هي تجربة جديدة بالنسبة للشعب السوري، لكنها ليست جديدة للفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين والكرد والايرانيين والليبيين والصوماليين والارتيريين والجزائريين وغيرهم من شعوب المنطقة. ان هذه الظاهرة، كما يبدو، يراد لها ان تكون عنوانا لخارطة جغرافية بعينها، هي منطقة الشرق الأوسط، وقد يصح القول العرب بشكل ما، وكأن عربون تخلصهم من الأنظمة الديكتاتورية، والإيديولوجيات الشمولية، هو المرور بهذه المرحلة، مرحلة اللجوء، والتشرد، والنزوح، والاغتراب، والنفي، باعتبارها مرحلة تطهيرية، ومراجعة، ومحكا، وتجربة للألم، للدخول في زمن ما، قادم، الى حقبة الحضارة البشرية.

اللجوء الذي نراه، اذن، لا يقتصر على مشهد الحقائب، والنساء، والأطفال الباحثين عن مأوى كأن يكون خيمة أو مدرسة أو مستشفى في بقعة ما أو بلد ما. انه ليس علب حليب، وأغذية عاجلة، وعبوات مياه، ولا دموعاً وخوفاً وهدراً لكرامة الانسان. انه تجربة مأساوية: فردية وجماعية. ويفترض في تجارب مأساوية، مؤلمة، فاضحة، أن تقود الشعوب الى وعي متسامح، منفتح، عاقل، لكن الخشية أن يحدث العكس، أي الانجرار الى مستنقع الحقد، والكراهية، والانتقام، والتقوقع الحضاري، والتطرف، حيث لا تنتظر هناك سوى الكارثة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى