لافتات كفرنبل: خطاب معرفي سلمي صامد فوق ضجيج الرصاص
يارا بدر
يحلو للكثيرين اعتبار الثورة السورية حرباً أهلية اليوم، والغرق في صخب المنازعات الكلامية الباحثة في شؤون ‘الإمارة الإسلامية’ المُزمع إنشاؤها على أنقاض دولة البعث، أو في صوملة الحالة السورية وإمكانية تحوّلها إلى دولة فاشلة، أو حتى خياراته ما بين التقسيم وبين اتفاقات الطائف، وصولاً إلى اللون الأفغاني.
إلاّ أنّه في البدء كانت الكلمة، وهكذا انطلقت الثورة السورية، ثورة الحرية والكرامة، كلمة كتبها أطفال على جدران حائط منسي تطلب ‘إسقاط النظام’، وعوقبوا على كتابتهم هذه باقتلاع أظافرهم. وقام السوريون، مثيرين العواصف في مختلف المستويات، خاصة مع إصرار الأسد الصغير على التأكيد أنّ ما يحدث في سوريا سيمتد أثره ليلهب المنطقة بأكملها.
إلاّ أنّه وفي مدينة صغيرة تدعى ‘كفرنبل’ كان لقيامة السوريين وقع آخر، أجل هي مدينة لا تخلو من العنف العسكري ولا من دماء القتلى والشهداء، كما أغلب المدن السورية، لكن في تلك المدينة رفع السوريون لافتات هزّت أقلام الكثير من المتابعين، وشكّلت عبر أكثر من عامين حالة شديدة الخصوصيّة في الخطاب الفكري- اللغوي البصري- لثورة الكرامة السورية، ونضالها السلمي الذي لم يوقفه كل أزيز الرصاص، وانفجارات القذائف المتتالية حتى اللحظة.
في ‘كفرنبل’ يلتقي أهالي المدينة بشباب سلمي، مؤمن بشعارات الثورة الأولى بأنّ الشعب السوري واحد، وبأنّ سوريا للسوريين وليست لعائلة مُعينة، وسواها الكثير. ينقلون إليهم أفكارهم حول ما يجري كل يوم من حولهم، مواقفهم وقراءاتهم المختلفة للتحركات السياسية الخارجية والداخلية، للحرب العسكرية، لأزمات السوريين، وغير السوريين، ففي كفرنبل رفع المتظاهرون عبارات التعزية للمدنيين عقب تفجيرات ‘بوسطن- أميركا’ الأخيرة، يصوغها الشباب بعبارات ورسوم كاريكاتيرية، ويرفعها المتظاهرون في مظاهراتهم كل يوم جمعة.
وقد كان لصحيفة ‘القدس العربي’ هذا اللقاء مع شابين هما ‘رائد فارس′ مسؤول إعلام الثورة في كفرنبل و’أحمد جلل’ مخبري اسنان الذي أغلق مخبره منذ أكثر من عامين وانطلق في رسم الكاريكاتيرات الساخرة على قطع كرتون صغيرة يرفعها المتظاهرون في كل يوم جمعة.
* نبدأ معك رائد ومع اللافتات التي تضيء المواقف الدولية من كل ما يحدث في سوريا، هل ساهم ذلك بنجاح وتميّز لافتات كفرنبل؟
* كانت وما زالت الصراعات الداخلية ومناحرات المعارضة السورية من ضمن أولويات اللافتات وثمة لافتات كثيرة تأتي ضمن هذا السياق، ولم يغفل هذا الجانب أبداً، والأمثلة كثيرة. ومن جانب آخر كان الاهتمام بالقضايا الكبرى واضحاً، لأنّنا نؤمن تماماً بأننا غير معزولين عن العالم الخارجي، وبأننا نتأثر بكل القوى وقراراتها، وبالتالي فمن واجبنا أن نحاول بطريقة معينة توجيه رسائل تظهر للعالم بأنّ هذا الشعب يعي تماما ما يدور حوله، وبأنّ زمن التحكم بهذا الشعب دون درايته قد ولى ولن يعود.
* هل ترى أنّ اللوحة الكرتون الصغيرة قادرة على نقل كل المقولات التي يرغب أهالي كفرنبل في إيصالها إلى العالم؟ أم أنّك تبحث أكثر عن مساحة في هذه اللوحة لنقل رؤيتك الخاصة؟
* إنّ أفكار اللافتات جماعية، وكل من هم حولي مشاركون فيها، وعليه فإنّها تعّبر عن رأي سكان مدينتي، ليس الجميع طبعاً، لأنّ سؤال الجميع شبه مستحيل، وفي ذات الوقت تعبّر عن رأيي كذلك. إنّ كفرنبل جزء من سوريا ومن الطبيعي أن نبحث دوماً عن توافق في المطالب لإظهار التوجهات العامة، التي يمكن أن تمّثل بدورها أفكاراً لدى مختلف السوريين في مختلف المناطق الجغرافية.
* برأيك لماذا تميّزت لافتات كفرنبل ورسوماتها عن باقي لافتات ورسوم مناطق أخرى في سوريا؟
* من الممكن أن يكون السبب في خروجنا المبكر للمشاركة في الثورة، واهتمامنا المبكر أيضاً بموضوع اللافتة، بالإضافة للاستمرارية… بالنسبة لنا المظاهرة مُقدّسة، ويجب أن تكون في كل يوم جمعة أيّاً كانت الظروف والأوضاع. ونحن في كفرنبل لم نخلف أي مظاهرة منذ أن خرجنا للتظاهر، على الرغم من احتلال الجيش لكفرنبل لمدة سنة كاملة، ومستمرون في المظاهرات حتى اللحظة، رغم اتجاه الثورة بشكل عام إلى الكفاح المسلح.
* كيف تقرأ الأوضاع اليوم، وكيف ترى الأفق؟
* الأفق حاليا مسدود، إذ إنّ كلا الطرفين غير قادر على الحسم العسكري، لقد تخّلى عنا العالم أجمع، وليس لنا سوى ‘الله’ الكريم. بمعنى آخر، إن لم نشهد حدثا ما مفاجئا يغير مجرى الأحداث، فأعتقد أنّ الوضع سوف يستمر لأمد طويل. ونحن الناس، الشعب ليس لدينا خيار سوى الصبر (شاء أم أبى).
* هل تخشى الطائفية؟ وتحوّل سوريا إلى نماذج مثل لبنان أو العراق؟
* من وجهة نظري أنّ التخوّف من الطائفية مُبرّر بسبب تكرار المجازر والحوادث ذات الطابع الطائفي، إلاّ أنني أظن، أنّ هذا كله فعل و رد فعل، هو وضع مؤقت قد يستمر لفترة ولكن في النهاية زائل، والتاريخ يثبت ذلك.
* هل توجد في كفرنبل ‘جبهة نصرة’؟
* أجل توجد ‘جبهة نصرة’، ولكن ليس لها امتداد أو وجود حقيقي، أي انه ليس لها دور في إدارة كفرنبل أو التحكم بمصيرها، وحتى الآن لم يقع أي خلاف أو صدام حقيقي معهم.
* لماذا تعتقد أنّ الأمور أقل تشجناً في كفرنبل، والفوضى تضرب مختلف نواحي الحياة في أماكن محررة أخرى من سوريا؟
* لا أعرف تحديداً كيف بدأت الإشكالات في المناطق التي نسمع عن اضطراب الأوضاع الداخلية فيها، ولكن يمكن لأنّ الوضع عندنا منظم نسبياً- نعاني أيضاً من الفوضى، لكن في النهاية تبقى أقل من مناطق أخرى بكثير، إضافة إلى أنّ أهالي كفرنبل طبعاً مسلمون، ولكن في المُجمل العام فإنّ فكرهم كما تعسكه لافتاتنا، يمثل الوسطية الجامعة، والذي يتفق بدوره مع مفهوم الثورة السورية الأساسي ‘الشعب السوري واحد’.
كما أنّ كفرنبل لا تقع في منطقة تماس مذهبي، وعليه تبقى الرؤية لدى الأهالي أكثر وضوحاً وأشمل مقارنة مع المدن الواقعة في مناطق التماس المذهبي، والتي تتأثر بالفعل و رد الفعل.
* وماذا بشأن الهيئة الشرعية؟
* أكيد في المرحلة الحالية حكم الهيئة الشرعية غير مرحب به بشكل عام، ولكن المشكلة أنّ ‘جبهة النصرة’ في النهاية تبلي بلاءً أفضل من باقي الكتائب، في مجال تنظيم وإدارة المدن، لأن الكثير من كتائب الجيش الحر، وللأسف، انحرفت عن مسار الثورة، وتحوّلت إلى اللصوصية والمحسوبيات، ممّا خفّض أسهم الجيش الحر لدى الناس، ورفع من أسهم ‘جبهة النصرة’.
* الفنان أحمد جلل، كيف تحوّلت السخرية لدى السوريين بعد عامين من الدماء، والاعتقالات، والقصف؟ خاصة ونحن نتذكر البدايات في أشهر لافتة: ‘يسقط النظام والمعارضة.. تسقط الأمة العربية والإسلامية.. يسقط مجلس الأمن…يسقط العالم.. يسقط كل شيء’؟
* السخرية من رحم المعاناة هي الأكثر صدقاً والأقوى تعبيراً، مسلسل يومي بل لحظي من الأصوات والمشاهد والروائح، وثلاثة خطوط تحت كلمة الروائح فرائحة الدم الممزوج بالبارود هي الفارق. هنا يحدث الفارق، يستطيع العالم أن يرى المشهد ويسمع الأصوات من خلال فيديو ولكن ما لا يستطيع فعله هو أن يشتم رائحة البارود الممزوج بالدم المعانق للتراب، هنا السخرية من كل شيء والابتسامة على شفتك السفلى التي تسحب معها الألم والمعاناة، فيتجعد جلد الوجه ويخفي خلف صفاره مرارة تمضي بك إلى عالم العهر، حيث نرى كم هو رخيص هذا المخلوق البشري، وتفقد الإنسانية كل قيمها.
* أنت كرسام كيف ترى نفسك وسط كل هذا الضجيج؟
* أنا أحاول في رسومي التأكيد على مقولاتنا كثوار تجاه ما يحدث، ولكن في الوقت ذاته هناك قسم كبير من الرسومات ناقدة وتوجيهية للمعارضة الخارجية، وللمعارضة المسلحة أحياناً، ولدي أكتر من رسم ناقد لظواهر محلية ضمن كفرنبل، وحتى أنها سببّت لي مشاكل مع الكتيبة الأمنية هنا. لأن الراهن تجاوز نقد سلوك النظام الذي انتهى وقته من زمان، حيث أنّ إجرام هذا النظام أصبح مكشوفاً للعالم أجمع، وعليه فإنّ المرحلة الحالية تتطلب نقد سلوك وأخطاء الثوار بشكل عام.
* نختم معك رائد، ونسألك إن كنت متخوّفاً من المرحلة القادمة؟ كيف تنظرون كشباب يناضل بشكل سلمي إلى الوضع العام؟
* أعتقد أنّ المرحلة القادمة باتت شبه واضحة، وأعتقد بأنّ النموذج اللبناني بات هو الأقرب، في مرحلة معينة ستتبلور تيارات وقيادات من الداخل، وسيكون هناك كينونات من الخارج، وستستمر الأمور إلى مؤتمر يكون شبيها بالطائف، وأحزاب بمواصفات أشبه بحزب الله اللبناني تمضي باتجاه دولة محاصصة.
نحن لن نرض طبعاً عن ذلك، وهذا يعني أنّ الثورة أصبحت حياتنا حتى إشعار آخر، وسنمضي في ثورتنا حتى نحقق الدولة التي ثُرنا لأجلها، قد نصل إليها أو لا نصل، ولكن الاستسلام ليس من طبعنا.