لا انتصر منتصر ولا هُزم مهزوم/ حازم صاغية
في لغة «حزب الله» مستويان يتعايشان تعايش الذئب والحمل في الجنّة:
مستوى الانتصارات والصواريخ والهزائم التي «ولّى زمنها»، ونجدنا أحياناً، كما في الخطاب الأخير للأمين العامّ، في حضرة معرض حربيّ لآخر الأسلحة المُهلكة، أو في فيلم عنف هوليووديّ، ثلاثيّ الأبعاد، أصواته لا تحتملها إلاّ الآذان المجرّبة في الخنادق.
المستوى الآخر مستوى المظلوميّة: دمنا، قهرنا، بؤسنا، «تعتيرنا»، تاريخنا في مواجهة السيف والظلم… الاحتكاك بالأدبيّات التوتاليتاريّة الوافدة من أوروبا عزّز هذا المستوى ببُعد آخر: نحن المُستَهدَفون بالمؤامرة. بالجواسيس. بالخونة. بالطابور الخامس… أبقوا عيونكم مفتوحة. «خلِّ السلاح صاحي».
الانتصار، ومعه الواقع بالتالي، لا يُقدِّمهما «حزب الله» وبطانته في إطارهما الدقيق أو في سياق عقلانيّ. إمّا مبالغات انتصاريّة تجنح إلى الخرافة، وإمّا إنكار للانتصار وتوكيد على مظلوميّة هي من جوهر الأشياء ومن طبائع الأمور.
خصوم «حزب الله» في بعض الأحزاب ومحيطها يملكون أيضاً لغة ذات مستويين:
المستوى الأوّل، تذمّر من أن السياستين الدفاعيّة والخارجيّة في يد «حزب الله»، بعد التسليم بأنّ أمر سلاح الحزب بات خارج النقاش. وهذا، معطوفاً على الشكوى المتكرّرة من انحياز أكثريّة المسيحيّين إلى الحزب، إقرار حاسم بأنّ هزيمة كبرى قد حلّت. يضاعف حجم الهزيمة ذاك العويل بسبب العقوبات الماليّة والمصرفيّة التي ستفرضها علينا سطوة ذاك الحزب. إنّه، إذاً، يحكمنا ويقودنا إلى الكوارث التي نراها أمامنا بأمّ العين.
المستوى الثاني، مفاده الإصرار على أنّ الهزيمة لم تقع، بل لن تقع. إنّ «العنفوان» لها بالمرصاد. في هذا الصدد يتمّ التذكير بـ «أنّنا» في رئاسة الحكومة وفي بضعة مناصب وزاريّة، وفيها نصنع «إنجازات». صحيح أنّ وزراءهم يزورون «سوريّة الأسد» لكنّ وزراءنا يحتجّون. صحيح أنّهم جيش لكنّنا كشّافة. وبين وقت وآخر يطلّ علينا رأس حامٍ بمقدار ما هو خاوٍ ويروح يتوعّد: إنّ غداً لناظره قريب!
الهزيمة، ومعها الواقع بالتالي، لا يُقدَّمان في إطارهما وفي سياق عقلانيّ. المطالب التي تُرفع احتجاجاً على ما آلت إليه قوّة الحزب لا تفضي إلى استنتاجها المنطقيّ من أنّ خصومه مهزومون. عند المطالبة بوصف دقيق لواقع الحال يأتي الجواب الابتزازيّ المشهور: ما البديل؟ هل تريدون حرباً أهليّة؟
والمراد فحسب هو وصف واقع الحال كما هو. الوصف الخاطئ أو المضلّل لذاك الواقع يرتّب مزيداً من الأخطاء. الطرفان المعنيّان «يتّفقان» على الوصف الخاطئ أو المضلّل: أحدهما يموّه الانتصار والآخر يموّه الهزيمة.
لا شكّ في أنّ مشاركة «الجميع» في حكومة واحدة تساهم في التمويهين، لأنّها تموّه فكرة الحكم والمعارضة. لكنّ الأسباب الأهمّ تذهب في اتّجاهات أخرى، فهناك وطأة اللغة، بأوسع معانيها، على أصحابها: ذاك أنّ الذي يتحدّث ببغاويّاً وآليّاً عن القهر والتعرّض للمؤامرة، غارفاً من مخزون إيديولوجيّ زاخر بالمظلوميّة، سيمضي في منطقه هذا حتّى وهو يعلن أنّه يهدّد إسرائيل أو يدكّ الإرهاب.
وفضلاً عن وطأة اللغة، يعود خوف المنتصر من انتصاره إلى إدراكه طبيعة المنطقة، وتوازناتها السكّانيّة والطائفيّة، وقابليّة الأسباب الخارجيّة وراء انتصاره للانقلاب والتغيّر، وإمكان أن تضعف، ذات يوم قريب، اللحمة التي باتت تشدّ المسيحيّين إلى «حزب الله»…
أمّا الذي انهزم ويرفض الإقرار، فأمره أقل تعقيداً. فهو تعامل طويلاً مع السياسة بوصفها شيئاً غير واقعيّ، وكرّسها في الخطاب بوصفها رغبات وأمنيات. لبنان الفانتازيّ حلّ دائماً في خطابه محلّ لبنان الفعليّ. لهذا فأيّ كلام واقعيّ يهدّده بالإخراج الكامل من السياسة. بالإقامة إلى ما لا نهاية في الزجل.
في ظلّ حذر من الواقع كهذا، سيبدو أيّ وصف للواقع عملاً عدوانيّاً على الجبهتين المتخاصمتين، أو اللتين كانتا كذلك. ومن يحاذر الواقع ويزوّر وصفه لا بدّ أن يُسأل: لماذا؟ أليس هذا أضعف الإيمان؟
الحياة