صفحات الرأي

لا توجد سلطة على الأرض يمكنها أن تصم أذنيها عن آراء المحكومين


محمد الحمامصي

 محمد الحمامصي من القاهرة: يبدأ ماريو إنفليزي ـ وهو أستاذ جامعي وباحث إيطالي يدرس في جامعتي ميلانو والبندقية، ويتولى في الوقت الحالي منصب كرسي تاريخ الطباعة والنشر ـ كتابه  “الكتب الممنوعة”  بحكاية عن تايتس زمن القيصر طيباريوس، حيث وجهت إلى كريموسيوس كوردو تهمة جديدة وعجيبة كونه نشر كتابات يعبر فيها عن تأسيه على الفضائل الجمهورية القديمة، ونعت فيها كاسيوس بآخر الرومان، لكن دفاع الكاتب الراسخ عن حرية التعبير ذهب سدى فقد أصدر مجلس الشيوخ قرارا بإحراق مؤلفاته، وبعد ذلك بألفي عام اشتعلت محرقة أخرى، ففي 10 مايو عام 1933 التهمت النيران أمام جامعة برلين مؤلفات الكتاب الليبراليين، لكي يصير واضحا أن النازية في ألمانيا لا تسعى إلى إحكام قبضتها على المؤسسات فحسب بل إلى التغلغل في أعماق النفوس أيضا.

ويشير ماريو إلى أن خلف مشهد حرق الكتب إرث ثقيل يعبر بشكل دراماتيكي فعال عن أقصى تبعات العلاقة الخلافية بين سلطات منظمة وأصوات توصف بأنها منشقة، “في الحقبة الزمنية ذاتها شهدت الرقابة تطورات أقل وضوحا، لكنها أكثر  تأثيرا، ألقت بظلالها على حضارتنا في جوانب عدة، وعلى طرائق فهم السلطة والقدرة على التعبير، فخلال الحديث بشكل خاص، وبين القرن السادس عشر ونهاية الثامن عشر، نشأ في أوروبا وتطور وضعف نظام من الرقابة على تأليف الكتب وتداولها واستخدامها كان يعتبر  تتمة طبيعية لمجتمع جيد التنظيم”.

يسعى ماريو إنفليزي إلى الإلمام بإجمالي تاريخ الرقابة على المطبوعات في الحضارة الغربية، متتبّعاً المسار الشائك لحرية التعبير عن الرأي، وأنواع الرقابة المسلَّطة على الكتب والكتّاب، بما فيها من قيود على النشر  بكافة أنواعه. متناولا بالدراسة والمعالجة نشأة الرقابة، وإعداد قوائم الكتب المحظورة، ودور محاكم التفتيش حتى بزوغ شمس عصر التنوير، فهو يبرز جلياً دور اللاهوت في ذلك، فضلاً عما أنتجته المعرفة من أدوات ومؤسسات تولت شأن الرقابة أيضاً.

يقول إنفليزي “غيرت الطباعة  “1452 ـ 1456″ وقيام نظام تجاري سرعان ما امتد إلى أطراف أوروبا كلها من ظروف التلاقح الفكري جذريا، حيث زادت كميات وعمليات الإصدار المطبعي المتوسطة، وتدفقت على عالم الكتب استثمارات أسهمت في زيادة جودة تقنيات التوزيع، وصارت بذلك بعض الدول الأوروبية الكبرى مثل البندقية وليون وباريس وبازيليا وأنفيرسا وأوجوستا وكولونيا مراكز مميزة، يتدفق عليها الطباعون، والناشرون والمؤلفون يفضل الطفرة التي أصابت فن الطباعة”.

لكن الطباعة لم تمر مرور الكرام، ولم تكن الثورة التي خلفتها في عادات القارة الفكرية خفية على أحد، ولم يتوان خطرها القوي خلال الستين عاما التي فصلت بين جونتبرج وإعلان إطروحات لوثر  الخمس والتسعين في الإفصاح عن ذاته، وسرعان ما اتخذت في بلدان عدة تدابير متخبطة وقليلة الفاعلية تهدف إلى مراقبة النشاط الطباعي.

ويوضح ماريو إنفليزي كيف أقر مرسوم “Inter Sollictudines ” لعام 1515 المبادئ العامة لرقابة كنيسة احتياطية، وخلال ذلك القرن تحددت المبادئ بشكل أفضل عبر القوانين التي ارتبطت بالأخص بقوائم الكتب الممنوعة بغرض جعلها أكثر إحكاما، كان هدف روما آنذاك ـ إخضاع الإنتاج الأوروبي كله إلى رقابة تتمركز في أيدي السلطات الدينية، وكان التصريح الكنسي بالطباعة هو جواز المرور الوحيد الذي يتيح نشر عمل ما وتداوله ولتفادي أي تجاوز، كان لابد من ظهور بيانات التصريح بوضوح على الصفحات الأولى من كل كتاب.

ويكشف إنفليزي  أن إصدار  قوائم الكتب الممنوعة كان سلاحا في يدر الرقابة الكاثوليكية “كان ظهور لوائح مماثلة يمثل إحدى الضرورات الملحة بالفعل قبل صدور القوائم الرومانية الشهيرة، في عامي 1559 و1964”  وقد أعدت في مختلف الدول الأوروبية منذ أربعينيات ذلك القرن، قوائم تضم العناوين التي يجب حظرها وخصصت لاستخدام القائمين على الرقابة المحلية، وتجدر الإشارة إلى القوائم التي أعدتها كلية علوم اللاهوت في السوربون من عام 1544 إلى عام 1556 التي منع على إثرها 528 كتابا.

في عام 1559 بعد فترة عمل طويلة وشاقة صدرت القائمة الرومانية الأولى التي مثلت طفرة حاسمة في نوعية الصراع الذي قادته كنيسة روما على الهرطقة، كانت قائمة بولس هي الوحيدة التي أعدتها محكمة التفتيش الرومانية، والأشد صرامة في التاريخ بما حوته من إدانات لم تعرف مهادنة أو تمييز.

هذه القائمة التي ظلت على حالها بشكل جوهري ـ كما يقول ماريو إنفليزي ـ حتى منتصف القرن السابع عشر ، كانت الأعمال الممنوعة التي تناهز الألف مرتبة ترتيبا أبجديا وموزعة في ثلاث مجموعات، ضمت المجموعة الأولى المؤلفين من غير الكاثوليك وقد طال الحظر كافة مؤلفاتهم بما فيها تلك التي لا تمت بصلة بالدين، تلت ذلك مجموعة ثانية شملت 126 عنوانا خص 117 كاتبا، ثم 332 عنوانا مجهول المؤلف، وفي نهاية الجرد أضيفت قائمتان إضافيتان إحداهما تضم 45 طبعة ممنوعة من التوراة والعهد الجديد والأخرى تشمل 61 طباعا، يضاف إنتاجهم إلى نطاق الحظر (جميعهم يقيمون في مدن سويسرية وألمانية باستثناء فرانشيسكو بروتشولي من البندقية).

ويلفت إنفليزي إلى أن الحظر شمل أعمالا ذات انتشار  واسع، ولا تتعارض في شيء مع القضايا اللاهوتية المتأججة، “لأنها اعتبرت معادية للكنيسة وفاضحة ولا أخلاقية. ترتب على ذلك إدانة أعمال عدة لبييترو أريتينو، ومؤلفات نيكولو  مكيافيلي كاملة، وربيلاي، وإرازموس دا روتردام، والأغاني لفرنشيسكو بيرني، والخطابات لأندون فرانشيسكو دوني، والديكاميرون لبوكاتشيو، إضافة إلى الأعمال الشهيرة والمنتشرة للويجي بولتشي، وجوفاني ديلا كاسا، وأورتنسيبو لآندو، ونيكولو فرانكو.

ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول، يقدم الفصل الأول تاريخ الرقابة الذي يرتبط بظهور قوة الكتاب المطبوع جلية، واضحة، وقدرته على الانتشار بيسر فائق بين أفراد الشعوب المختلفة، والذين كانوا بمنأى في الماضي عن الثقافة المكتوبة. غيرت الطباعة، وقيام نظام تجاري سرعان ما امتد إلى أطراف أوروبا كلها، من ظروف التلاقح الفكري، فزادت كميات وعمليات الإصدار المطبعي، وتحولت بعض مدن أوروبا إلى مراكز للنشر  يقصدها الناشرون والمؤلفون والقراء، ولقد أثار ذلك قلق الكنيسة فسعت إلى إقرار مبادئ عامة لرقابة استباقية يخضع لها الإنتاج الأوروبي المطبوع كله. ويتناول الثاني قوائم الكتب الممنوعة التي أعدّها أساتذة اللاهوت، ورعتها محاكم التفتيش، والتي شملت مطبوعات ذات انتشار واسع ولا تتعارض في شيء مع القضايا اللاهوتية الشائكة. وامتدّ الجدل إلى شرعية قراءة التوراة بين العامة، كما دخل العلم، والأدب حيز عمل المراقبين، وتعرضت بعض أكثر المؤلفات الأدبية شهرة إلى التحريف على يد المنقّحين المشهورين. وتشير أدوات الرقابة الرسمية كالقوائم والمراسيم إلى مدى الاضطراب الذي شهده المشهد الثقافي والاجتماعي في النصف الثاني من القرن السادس عشر.

ويتناول الفصل الثالث حدود الرقابة، وإصرار كنيسة روما على تطبيق خطة شديدة الإحكام للتأكد من تطبيق القائمة والحفاظ على الخصائص المركزية، مما استدعى إعداد مشروع لجلب كل قوائم الكتب المحظورة، التي جمعها المحققون إلى روما، وكل قوائم كتب مكتبات الطوائف الدينية المختلفة مما شكل مشهداً عاماً ثرياً لقراءات رجال الدين والدومينيكان واليسوعيين. ويشير المؤلف إلى عدم قدرة المحكمة المقدسة على إقامة رقابة فعلية على تداول الكتب المحظورة، وندرة محاكمة الأشخاص الذين وجدت في حيازتهم تلك المؤلفات.

ويتناول الكتاب في فصله الأخير القرنَ السادسَ عشر بالتركيز، حيث اشتدت الرقابة والنشاط الرقابي، اللذان تتم ممارستهما عبر قنوات تشريعية صارمة. إذ بلغ التعاون بين محكمة التفتيش وجامعتي سالامانكا وألكالا، اللتين كانتا تتوليان مهمة تحديد الهرطقة، مداه، ثم اتجه عمل محاكم التفتيش بعد ذلك إلى التعويل على ذاتها. وفي الأعوام الأخيرة من القرن السادس عشر، كانت الممارسات الرقابية قد تجاوزت كل حد، حيث خضعت للمراقبة مؤلفات باللهجة الشعبية، وأعمال دينية شعبية، وكتابات أكاديمية، وعلمية.

لكن في أعقاب ذلك – ووفقا للمؤلف – حصل سعي الدولة لفرض سلطتها على المطبوعات، ومع ذلك ما انهارت الرقابة كلياً وإنما تراخت شدتها مما كان يعني -بشكل جوهري، وفي كل الدول تقريباً- انفراجاً واضحاً في الحيز الرقابي رافقه انتشار للسوق السوداء للكتاب، فتراجعت القوة القمعية للمحكمة المقدّسة، وانضمت الكنيسة، خلال ولاية البابا بيندكتوس الرابع عشر، إلى دعاوى الإصلاح الاجتماعي الخاصة بعصر التنوير. غير أن ذلك الانفراج النسبي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، المتسم بطابع رسمي، غالباً ما أثار في نفوس القراء الملل أو الرفض، حيث انتشرت حشود المتعالمين، والكتب السيئة المطبوعة تحت الموافقة والامتياز الملكي، مما حمل الجمهور إلى توجيه النظر صوب نواحٍ أخرى، صوب ما يبدو من بيانات النشر قادراً على استدعاء غير المألوف، والمخالف للقواعد.

ويؤكد إنفليزي أنه ورغم التطورات الحاصلة بشأن تراجع الرقابة في أوروبا لم  يتم إقرار حرية النشر رسمياً إلا مع صدور “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” في باريس في 26 أغسطس عام 1789م، الذي تضمّن أن “تبادل الفكر الحر، والآراء، أحد حقوق الإنسان الأكثر تقديراً، ويحق لكل مواطن أن يتحدث ويكتب وينشر بحرية كاملة في ما عدا ما يُعد تجاوزاً، وفقاً للحالات التي نصت عليها القوانين”.

ويختتم ماريو إنفليزي بالقول “أن القمع قد تجلى بمظاهره الشرسة ذاتها منذ عصور سحيقة أدى إلى إفقاد المشكلة طابعها التاريخي، لقد أشرت في مستهل الكتاب إلى التاريخ الطويل لصورة محرقة الكتب بداية من العصر القديم، ووصولا إلى النازية وما تلاها، وربما حالت قوة تذكير تلك النيران دون النظر خارج الأطر الفكرية، ووضع قضية الرقابة داخل الإطار الأوسع لفكرة الاتصال وعلاقته مع السلطة، وتمثل صعوبة إدراك عدم القدرة على تحديد تعريف واحد للحيز الذي يمكن أن تمارس داخله حرية التعبير أحد مخاطر البقاء قيد المفاهيم الثابتة، وذلك لأنه يسعى إلى التجدد بشكل دائم، وفقا لتطور تكنولوجيا المعلومات المرتبطة بالنظم المؤسساتية والاحتياجات ذات الطابع الاجتماعي. ولا توجد سلطة على وجه الأرض يمكنها أن تصم أذنيها ـ وإن جازفت بالتبسيط المفرط لمشكلات لا تزال بمنأى تماما عن إيجاد حل لها ـ عن آراء المحكومين إلى درجة أن تكف تماما عن محاولة التأثير عليها، وفي مهمة كتلك لا يكون الحظر والمحرقة الأداتين الأكثر فاعلية دائما”.

يذكر أن الكتاب صادر عن مشروع كلمة أحد مشروعات هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة وأن الكاتب  ماريو إنفليزي، اهتم طويلاً بقضايا الرقابة على المؤلفات، وتداول المطبوعات في أوروبا الحديثة، ونشر في هذا الصدد العديد من الدراسات والأعمال من بينها “صناعة النشر في البندقية في القرن الثامن عشر” (ميلانو 1989)، ويعكف حالياً على كتابة تاريخ الإعلام السياسي.

مترجمة الكتاب  وفاء عبد الرؤوف البيه، أستاذة الأدب الإيطالي الحديث في كلية الآداب، في جامعة حلوان. لها العديد من الدراسات المنشورة، سبق لها وأن ترجمت رواية “المسيح توقف عند إيبولي” لكارلو ليفي 2010، ورواية “أنطونيو الجميل” لفيتاليانو برانكاتي 2010.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى