صفحات العالم

لا جدول أعمال عربياً

سليمان تقي الدين
نزلت حرارة القوى الدولية حول سوريا إلى درجة واضحة من البرودة. صدر بيان رئاسي عن مجلس الأمن يدعم مهمة كوفي أنان والبحث عن حل سياسي. نجح الروس والصينيون في وقف استباحة الغرب للمنظمة الدولية واستخدامها كأداة شرعية لتمرير سياساتهم. ظهر وزير خارجية روسيا لافروف كنجم في الدبلوماسية الدولية وهو يعلن العودة إلى الشراكة المتوازنة في القرارات الدولية. تدرّج التوازن الدولي الجديد من دفاع روسيا عن أمنها القومي في أوروبا الشرقية إلى الدور الروسي والصيني في الدعوة إلى سياسة مالية عالمية جديدة، وعدم التسليم للغرب في شن الحرب على إيران. هذه وقائع سابقة على الموقف من سوريا. أصر الروس على أن موقفهم من الأزمة السورية «مسألة مبدأ» يتعلق برفض التدخل العسكري في شؤون الدول وعدم الانفراد في اعتماد سياسات تضر بالأمن والسلم وتساهم في نشر الفوضى. بدت الدبلوماسية الروسية أكثر إدراكاً لمخاطر اجتماع المتناقضات الإقليمية والدولية على الساحة السورية. منذ اللحظة الأولى للأزمة اشتبكت الأدوار المختلفة لإيران وتركيا ودول الخليج فضلاً عن الغرب وإسرائيل.
بعد عام من الأزمة أصبح التدويل مسيطراً على اتجاهات تطور الأوضاع في المنطقة كلها. تدويل الأمن والثورات والثروات. المعطى الإيجابي لهذا التدويل أنه يضع سقفاً للنزاعات ويعزز احتمال استبعاد الحروب الإقليمية بين الدول. هناك قيد واضح أميركي محسوب دولياً على طموحات القيادة الإسرائيلية لفتح المواجهة مع إيران. وهناك حاجز واضح أمام الدور التركي لتوسيع الدور العسكري في سوريا. لكن هذه المعادلة الجديدة تفتح على أشكال مختلفة من الصراع. اعتراف الغرب بدور روسيا في معالجة الأزمة السورية، وبمصالح الصين وروسيا الأمنية وخطوط إمداد النفط والغاز من إيران أو دول وسط آسيا، والحاجة إلى الفوائض المالية لمعالجة أزمات ضاغطة على أميركا وأوروبا ومتفجرة في اليونان والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا، كل هذه مسائل فعلية تمهّد لحوار وتفاوض وتسويات.
إلا أنه من المبكر جداً الاستنتاج أن القوى الدولية استنفدت إمكاناتها على تحريك المواقع لزيادة نسبة تأثيرها على صورة النظام «الشرق أوسطي».
ليس في المدى المنظور ما يدل على احتمال تسوية مع إيران على دورها الإقليمي أساساً المتستر بملفها النووي. وليس في الأفق أي ملمح لحل القضية الفلسطينية لا في المنظور الإسرائيلي ولا في المنظور العربي. ولا هناك ما يشير إلى استرخاء التوتر العربي الإيراني تحديداً عند دول الخليج العربي. ولا من وضوح في خيارات مصر في صياغة العلاقات الإقليمية أبعد من التمنيات عن تطبيع مع إيران وتركيا أو استنهاض في وجه إسرائيل.
طرأ على المسرح العربي عاملان يصعب كبحهما هما الدور الخليجي في رعاية تيارات الإسلام السياسي والتأثير على تكوين السلطة، والحركات الثورية التي أسقطت هيبة النظام العربي كله وزعزعت شرعيته في كل مكان بما في ذلك أنظمة الخليج المحافظة نفسها. يستحيل على المنطقة أن تتجه في التحوّل الديموقراطي أياً كانت ثقافة هذه الديموقراطية السياسية وأن يبقى النظام الخليجي الفاعل في هذا التغيير خارج منظومة القيم الجديدة السائدة. بل يستحيل أن يتولى الخليج رعاية أنظمة التغيير هذه ويظل خارج المساءلة عن مصير الثروات العربية وكيف يجري التصرف بها بعد هذا الاقتراب العام بين الخيارات السياسية تحت مظلة الإسلام السياسي الصاعد في كل مكان. بعيداً من الشعارات السياسية ومن الادّعاءات لا ينقسم العالم العربي بين معسكر محافظ كنا نصفه بالرجعي وبين معسكر وطني وتقدمي. لن يكون في مؤتمر القمة العربية مثل هذا الاستقطاب.
انتهى عهد «الراديكالية العربية» في معاقلها، مصر، الجزائر، اليمن، ليبيا، العراق وسوريا. لكن هذا التطور يجب ألاّ يطمس حقيقة أن العالم العربي لم تعد تختصره القمم بين ممثلي الأنظمة. هناك جدول أعمال مختلف يفرض نفسه على الساحة العربية تدريجياً. لا يمكن لأي قمة اليوم ادّعاء تمثيل هذه الملايين التي هزّت كل العواصم وغيّرت من أنماط القيادة الرسمية. يُراد لقمة بغداد أن يحصل التعارف والتعريف بين الطقم السياسي الجديد الذي لا يملك أي خبرة أو تجربة في التعاطي مع المشكلات الإقليمية والدولية ولا يملك وجهة واضحة للأمن القومي العربي ولا تشخيصاً واضحاً لمشكلات إدارة مجتمعات لديها تعددية سياسية لو كانت غير مستقرة في تجربتها الديموقراطية الجديدة.
لم يكتمل مشهد التغيير أصلاً، فلا شرعية كاملة لمعظم قادة هذه الدول. لم تتشكّل بعد سلطة يمنية واضحة المعالم والوجهة ولم تستقر السلطة في ليبيا ولم ينجز المصريون انتخاب هيئات دستورية تنفيذية ولا استعاد العراق استقراره السياسي والأمني ولا عرف الأردن على أي جنب يميل وسط تحديات فعلية عن إحياء المشروع الصهيوني للوطن الفلسطيني البديل.
أما سوريا فهي الدولة التي سيتقرّر مصيرها بعد جهد كبير من تفكيك ومعالجة الملفات الخلافية الإقليمية والدولية. يكاد الحديث عن سوريا اليوم، الذي يتداوله أطراف النزاع، يجافي حقيقة أن الأمور لم تحسم ولن تحسم في المدى القريب. ربما كانت المعادلة الراهنة قد استقرت على نقيضين لا يصنعان حلاً، لا تستطيع المعارضة إسقاط النظام ولا يستطيع النظام أن يحكم. هناك مكاسب سلبية لدى الطرفين وليس هناك من تسوية قادرة على إعادة هيكلة الدولة السورية ولا قطعاً استعادة الوظيفة والدور. ينسحب هذا الواقع بالضرورة على لبنان الذي لا تتوافر فيه إرادة وطنية واحدة. ربما تجاوزت المنطقة احتمالات تفكيك الكيانات وإعادة تشكيل جغرافيتها أمام هذا التوازن الدولي الجديد. لكن وظائف هذه الكيانات وأدوارها سوف تخضع بالضرورة لصياغة جديدة تاركة شكل السلطة الداخلية لتفاعلات هذا الحراك العربي وهذا التدخل الدولي. هكذا ينصح مساعد وزير الخارجية الأميركية أصدقاءه في لبنان أن يتجهوا إلى معركة انتخابات 2013.
انغمست كل القوى السياسية في هذه الحسابات الانتخابية وتجاهلت حقيقة أن أي توازن سياسي نيابي جديد لن يغيّر شيئاً في المسار العام لهذا البلد. يتأكد كل يوم أن الطبقة السياسية اللبنانية بكل فروعها تذهب في اتجاه الاستقالة من مهمة بناء الدولة والوحدة الوطنية، وقد أظهرت عجزاً مذهلاً عن حفظ حقوق الإنسان البدائية أمام حالة الاهتراء في المؤسسات وتداعي هيبة القانون
السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى