لا حلّ إلا بإسقاط الأسد/ غازي دحمان
يجاهر خطاب قوى ما يعرف بـ«الممانعة «بطرح معادلة جديدة لمقاربة الأزمة في المنطقة تقوم على تقديم نفسه كخيار وحيد وإجباري، ويطالب القوى المختلفة بالانصياع لرؤيته هذه والقتال تحت رايته وإلا فإنه سيتهمهم بالخيانة والغباء، بالطبع وفق هذه المقاربة مطلوب إعادة تأهيل مكونات هذه القوة، القديم منها والجديد، وتسليمها مقاليد الأمور، لكن هذه المرّة بإرادة وانصياع كافة المكونات المجتمعية والتيارات السياسية إلى حد انمحائها ضمن سياق المعركة التي يحدد تاريخها ومكانها حلف الممانعة وحده.
ومن أجل تمرير هذه المقاربة يطالب هذا الخطاب بعدم التركيز على التفاصيل التي صنعت الأزمة وعدم الاهتمام بها والاستغراق بشرحها وتحليلها أو جعلها ركيزة لفهم ما حصل، على اعتبار ان هذا الأمر لم يعد مفيداً ولا مجدياً في المواجهة مع قوى التطرف، والتركيز على حقيقة أن النتيجة هي سيادة القوة المتطرفة ساحة الفعل وتراجع ما عداها، والاعتراف علناً بأن ما كان قبل مرحلة الثورات هو الأفضل، إذا أردنا ان نكون واقعيين ونغنم بالسلامة.
وفق هذا المعنى يصبح مطلوباً من أنصار الثورة، بل قل من أنصار الحياة الآدمية، أن يتبرأوا من طموحهم الثوري ويشجبوا لحظات الأمل التي عاشوها بميلاد عهد جديد يعيشون فيه بحرية وكرامة، والأكثر من ذلك أن يتنازلوا عن مظالمهم وعذاباتهم ويعتذروا عما سببوه من إزعاج لقوى المقاومة. حسناً، ربما يحق لهذه الأطراف اعتراف الأخرين ببراعتهم في صناعة شبكة الفوضى، وتحريف الفعل الثوري، وتشويه مقاصد الثورة، لكن أن يطلبوا من الآخرين تصديق ذلك، هذا ليس من الواقعية بشيء، الواقعية التي يطلبون من الآخرين التعاطي بمنهجها، ذلك أن المعادلة أبسط مما يتصورون وهي لا تخفي نفسها ولا تحتاج لكثير من التدبير للوصول إلى أسرارها، المطروح اليوم هو استبداد وتوحش هذه القوة مقابل تخلف داعش وتوحشه، ولا فرق بينهما سوى ببعض التفاصيل، التي لا تغير من طبيعة المشهد بقدر ما تتلاعب بالصورة والإخراج.
ثمة طريق أخر، وسلوك هذا الطريق بات هو المخرج الوحيد لشعوب المنطقة للخروج من الحرب الطاحنة التي يعد طرفا الاستبداد والتوحش الاستمرار بها ولا يملكان بدائل أخرى خارجها، وهذا الطريق هو العودة إلى أصل وسبب كل هذه الشرور، وإزالة الديكتاتور الذي قرّر حرق البلاد ليمنع مواطنيها من الحصول على حياة حرّة وكريمة، والذي اعتبر أن صرخة الجموع من آهات الوجع إهانة لقدسيته ولن يكون المقابل الجزائي العادل لها بأقل من قتلهم تحت ركام منازلهم، وتشريد الملايين منهم، وإذلالهم إلى أبعد حد، وتشويه صورتهم في العالم كله.
هذا يمثل قمة العقلانية والمنطق، لأن استمرار وجوده سيشكل، على الدوام، أفضل مناخ لنمو الحركات المتطرفة، ذات الفكر الطائفي البغيض من داعش إلى حزب الله وما بينهما. استمراره سيفاقم مساحة التطرف في المنطقة ويزيدها أضعافاً، مقابل تراجع الفكر المتسامح والمدني، بسقوطه أيضاً سوف تتحطم منظومة المحفزات التي تولد الحقد والكراهية للآخرين وسيتم إغلاق دائرة الاستقطاب، وتنكفئ منظومات ومنظمات التطرف. بسقوطه أيضا سيتوقف عداد المتورطين بالدم والذاهبين إلى الموت، لأن بقاءه سيجعل الجميع في وضعية قاتل أو مقتول. بسقوطه تقوى القوى المدنية في سوريا ولبنان، بعد أن عمل الأسد على تجريفها هنا وعمل « حزب الله» على تهميشها هناك، بحيث صار الصوت الاعلى لقوى التطرف وحدها.
بالمنطق والواقع، لا خيار أمام شعب يقول له حاكمه جئتكم بالبراميل والموت جوعاً سوى اللجوء لمن يدفع عنه الموت أو يؤمن له الإغاثة، ومن الغباء وعدم رؤية الواقع، رؤية الموضوع بغير هذا المنظار. الجزء الأكبر من الشعب السوري لا يملك رفاهية الخيار، ومن غير المنطقي والواقع مطالبة هؤلاء بالقتال لاستعادة حكم عصابة، لم تكتف بكل القتل الذي أجرته على أجسادهم وأرواحهم، بل تضع الملايين منهم على قائمة المطلوبين للموت في سجونها تحت التعذيب، لإرضاء رغبة الانتقام عند السجان، أو لإشفاء غليله من وقاحتهم بطلبهم الحياة الكريمة.
وبالمنطق والواقع، لا إمكانية لعودة ملايين المهجرين إلى سوريا، طالما بقي نظام الأسد الذي انتهى الى توصيفهم كخونة ويفكر بإسقاط الجنسية عنهم، ولا إمكانية لإعادة إعمار ملايين المنازل والمدارس المدمرة، ولا حتى إعادة تنشيط الدورة الاقتصادية، وعودة الحواضر والأرياف السورية للحياة، بوجود نظام تعاديه البيئتان الإقليمية والدولية، نظام بأيام الرخاء وزّع مواطنيه لتحصيل أسباب العيش في بلدان الجوار؟
ليس نظام الأسد سوى ماكينة قتل متحركة. هذه طبيعته، ولم يصنعه داعش ولا النصرة، التي ولدت في مرحلة متأخرة من حكمه، عندما روّع لبنان وقتل قادته وهدّد بتكسيره على رؤوس أهله. كان ذلك في وقت لا وجود فيه الا للمتطرفين الذين صنعهم هو أمثال شاكر العبسي و«فتح الإسلام«. وعندما أغرق العراق بالموت لم يكن من المتطرفين سوى جماعة أبو مصعب الزرقاوي، الذي كان يعقد اجتماعاته في فرع الأمن العسكري بشهادة الكثير من المنشقين السوريين وبعض التائبين من القاعدة، وبالتالي لا يمكن بأي شكل من الأشكال التعايش مع هكذا نظام وقبوله.
غير أن قمة المنطق أيضاً تقول بأن هذا النظام بالأصل انتهى، وهو في مرحلة النزف حتى الموت، وإن محاولات إنعاشه هي نوع من الانتحار والجهد اللامجدي، والأفضل هو البحث عن بدائل أخرى ومقاربات جديدة لإرساء الاستقرار، حتى لو تطلب ذلك الإقرار بالخطأ والاعتراف بالهزيمة. وحتى يهون عليكم الأمر، هذا النظام الذي يحتضر هزمه شعبه مقابل ضريبة دم كبرى ونكبة أكبر، وليس عيباً الانهزام أمام حق الشعوب في تقرير مصيرها.
المستقبل