صفحات العالم

لا خيار إلا «التدويل» إذا انهارت المبادرة العربية


صالح القلاب

فَتَر حماس الجامعة العربية تجاه المأزق السوري المتفاقم بعد غضبة عرمرية، ينطبق عليها ذلك المثل القائل «تمخض الجبل فولد فأرا»، فبعد انتعاش الآمال بوضع عربي جديد في ضوء سلسلة التحذيرات والتهديدات التي وجهت إلى نظام الرئيس بشار الأسد، إن هو بقي مستمرا في عملية ذبح شعبه وإن هو بقي يواصل تلاعبه ومناوراته للتملص من مبادرتها المعروفة، بدأت الأمور تتراجع، وقد تلاحقت «المُهَل» التي أعطيت لهذا النظام الذي ازداد إمعانه في ممارسة عنف وصل إلى حد الإبادة والمذابح الجماعية.

كان من المعروف منذ البدايات أن الجامعة العربية، التي بقيت تتفرج على ذبح الشعب السوري شهورا طويلة، ليس لها موقف واحد تجاه هذه الأزمة السورية، وأن بعض دولها منحازة لنظام بشار الأسد، في حين أن دولا أخرى تصر على اتخاذ موقف محايد ولا تريد إطلاقا إقحام نفسها في شأن ترى أنه لا يهمها وأن التعاطي معه سيعرضها إلى إشكالات إقليمية كثيرة أخطرها التصادم مع جمهورية إيران الإسلامية.

لكن، ومع ذلك، ورغم كل عمليات الشد العكسي هذه التي مارستها بعض الدول العربية، متكئة على الموقفين الروسي والصيني غير المبررين إطلاقا، فإنه قد ساد إحساس بأن الجامعة العربية باتت تتخذ وضعية غير الوضعية السابقة التي بقيت تتخذها إزاء أكثر قضايا العرب تعقيدا وخطورة وأنها بصدد أن تصبح صاحبة قرارات حاسمة وتصبح قادرة على ضبط نزوات بعض أنظمتها المتهورة التي أقدامها في الألفية الثالثة ولكن رؤوسها لا تزال هناك في سنوات خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي؛ وفي مقدمتها بالطبع هذا النظام السوري الذي لم يبق ما يشبهه من أنظمة العالم كله إلا نظام كيم جونغ إيل في كوريا الشمالية.

لقد جاء قرار تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، بعد أن تمادى بشار الأسد في قمع شعبه، كمؤشر على استبعاد تدويل هذه الأزمة واستبعاد الاستنجاد بحلف شمالي الأطلسي كما حدث بالنسبة للأزمة الليبية، لكن، وللأسف، فقد بدأت المماطلات تأخذ مسارا تلاحقت حلقاته إلى حد أن هذا النظام قد بادر إلى مضاعفة أساليبه العنفية واللجوء لمحاصرة حمص، عاصمة الثورة، لحسم الأمور بسرعة ووضع السوريين والعرب والعالم أمام وقائع جديدة.

من مهلة إلى مهلة أخرى جديدة، قد تلاحقت المُهل بلا أي مبرر، فتحول «بروتوكول» المراقبين الذي أعدته الجامعة العربية إلى مهزلة مضحكة مبكية، وكل هذا بينما كان المفترض – لولا أن دول الشد العكسي قد فعلت فعلها – أن تكون هناك كلمة واحدة وأن يكون هناك إنذار واحد وأن يقترن القول بالفعل وأن لا يعطَى هذا النظام أي فرصة ليواصل ألاعيبه ومناوراته بينما عمليات الذبح مستمرة بل متصاعدة في كل المدن والمناطق السورية.

ما كان على الذين يسعون لإنجاز حل عربي لهذه الأزمة المتفجرة، لقطع الطريق على أي تدويل، أن يسمحوا بكل هذا التلاعب وأن يعطوا كل هذه «المُهَل» المتلاحقة التي شرعت الأبواب أمام إيران كي تدخل هذه الدائرة التي من المفترض أنها دائرة عربية، وشجعتها على ممارسة المزيد من الضغط على بعض العرب المؤلفة قلوبهم الذين هم في الأساس لا يريدون التعاطي مع هذه القضية الملتهبة التي يرون أنها لا تعنيهم وأنها ليست قضيتهم.

كان ذهاب الأمين العام إلى بغداد دليل إفلاس الجامعة العربية ودليل تسرب اليأس إلى قلوب الذين أبدوا شجاعة منقطعة النظير لإنقاذ الشعب السوري من مذبحة دموية متواصلة ومتصاعدة ووضع حد لكل هذا العنف الأهوج الذي يمارسه هذا النظام الذي هو أحد بقايا الأنظمة الديكتاتورية والقمع البدائي في العالم كله.. وهنا فإن المفترض أن ما لا خلاف عليه هو أن رحلة نبيل العربي البغدادية هي في حقيقة الأمر رحلة إلى إيران، وأن المبادرة العراقية المثيرة للكثير من التساؤلات هي مبادرة إيرانية، وإن «كاك» هوشيار زيباري عندما كُلِّف بالذهاب إلى دمشق، فإنه كان يعرف أن الإيرانيين قد أمسكوا بزمام المبادرة وأن الأمور بدأت تخرج من يد المجموعة العربية.

ولذلك، وقد حصل كل هذا الذي حصل، فإن اجتماع يوم السبت المقبل سيكون بمثابة اجتماع عزاء للجامعة العربية ولمبادرتها؛ اللهم إلا إذا أصر الذين قادوا هذا التحرك العربي منذ البدايات في اتجاه الحسم ووضع حد وبسرعة لكل هذه المذابح، على مواقفهم حتى وإن ذهبت الأمور إلى حد الفراق وانسحاب البعض من هذا الاجتماع ومن هذه العملية كلها.

إنه على العرب العاربة والعرب المستعربة أيضا أن يدركوا أن نتائج هذه المواجهة المحتدمة على الساحة السورية ستحدد معادلة النفوذ في هذه المنطقة ولحقب، وليس لسنوات، طويلة، وأنه إذا استطاع بشار الأسد أن يكسب هذه المعركة ويحافظ على نظامه، فإن النصر الذي سيتحقق سيكون نصرا لإيران، وأنه بعد ذلك سيكون على أي مسؤول عربي أن يستأذن الولي الفقيه مسبقا حتى إذا أراد أن يزوج أحد أبنائه أو أراد أن يقوم بزيارة استجمامية إلى دولة عربية قريبة أو بعيدة.

«مَنْ يَهُنْ يسهل الهوان عليه»، ويقينا أنه إذا خرجت إيران من هذه المعركة منتصرة فإنها ستفرض معادلتها على هذه المنطقة كلها، وأنها ستجبر الأميركيين والإسرائيليين والأتراك على التعاطي والتعامل معها على أنها الرقم الأساسي في المعادلة الشرق أوسطية، وهذا يعني أنه لن يكون هناك أي رقم عربي في هذه المعادلة، وأن حال العرب ستكون كحال «الأيتام على مآدب اللئام»، وهذا يجب أن يعرفه الذين سيلتقون يوم السبت المقبل تحت قبة قاعة اجتماعاتهم في مبنى الجامعة العربية الذي هو بالتأكيد إن حصل هذا كله – ونأمل أن لا يحصل – سيتحول حتما إلى ملحق لمتحف الفراعنة القريب المجاور.

إذا لم يستطع الخيرون من الذين سيجتمعون يوم السبت المقبل الحفاظ على المبادرة العربية إزاء الأزمة السورية بصيغتها السابقة المقررة، فإنه عليهم أن يتنحوا ويفتحوا الطريق أمام التدويل الذي لا بد منه.. أما أن يصبح القرار في أيدي المؤلفة قلوبهم، وأما أن تفرض إيران نفسها رقما رئيسيا على معادلة هذه المنطقة التي هي منطقة عربية، أولا وأخيرا، فإن هذا سيكون مكلفا؛ إنْ ليس لنا في هذه المرحلة التاريخية الراهنة، فإنه سيكون مكلفا لأجيالنا القادمة.

ولعل ما يجب أن يكون معروفا أن حصار حمص هو حصار للإرادة العربية، وأنه وفقا لهذه المواجهة سيتحدد مستقبل الشرق الأوسط كله، ولهذا، فإن الخيرين في الجامعة العربية يجب أن يتعاطوا مع ما يجري في سوريا بمنتهى الجدية، خاصة وقد بات واضحا ومؤكدا أن الحلول الترقيعية مع بشار الأسد ونظامه غير مجدية، وأنه لا بد من أخذ هذا الملف إلى مجلس الأمن الدولي بعدما أخذ عرب الشد العكسي يفعلون هذا الذي يفعلونه تملقا لإيران وخوفا وخشية منها والذين إن لم يوضع حد لهم وبسرعة، فإن الكارثة آتية لا محالة.

هناك استحقاقات كثيرة تواجهها دول هذه المنطقة بلا استثناء؛ وأولها استحقاق ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق، واستحقاق احتمال تعرض إيران لضربة أميركية – إسرائيلية بسبب قدراتها النووية المتعاظمة، واستحقاق الصراع التركي – الإيراني على الإقليم، وأيضا استحقاق عملية السلام المتوقفة، واستحقاق الربيع العربي الذي أدخل الشرق الأوسط في كل هذه المستجدات الخطيرة.. ولهذا، فإن أي تأخير في إنهاء المأزق السوري بالحسم وليس بـ«الطبطبات» وأنصاف الحلول، ستكون تبعاته مكلفة جدا، وستترتب عليه معادلة ليست لمصلحة العرب، وستكون على حساب مستقبل أجيالهم المقبلة.

الرأي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى