“لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لخالد خليفة دراما التفسخ الاخلاقي/ جينا سلطان
بغواية ماكرة يحرك الروائي السوري خالد خليفة خيوط التاريخ السوري المعاصر في روايته، “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، محاولا التوازن فوق حافة الهاوية، عبر إدارة الصراع الدرامي، وتوجيه الانزلاق الجمعي نحو تخوم الانتحار يأساً، ضامناً التوزيع الجيد للشخصيات وتعاقبها كخلفية للحدث المتواري، وإعادة تقويم المرحلة السياسية التي دشّنها ريفيون حالمون بعطف التاريخ، وأغلقها سماسرة الدين والأخلاق واباطرة المال.
يتخذ خليفة من الكراهية التي تتناسل من مخادع الاسر المقيدة بعارها الشخصي، والمتجذرة اجتماعيا عبر الوضع السياسي المعبأ بالخوف والقلق؛ أيقونة للموت المكافئ للنسيان. يجد في ذلك، اعادة كاملة لرسم تفاصيل صغيرة مختبئة في مكان ما من حلب، التي يراها مكانا زائلا كما النسيان، حيث كل ما سيبقى من صورها الحقيقية اكذوبة تعيد الشخصيات اختراعها كل يوم كي لا تموت.
يتعقب خليفة فلول الاريستوقراطية الحلبية من خلال أسرة جلال النابلسي، الموظف في سكة الحديد ابان نهايات الاحتلال الفرنسي، وكيف أرسى بزواجه الباهت من جدة الراوي لمشاعر الكراهية في حنايا أبنائه وأحفاده، فعشعشت في كل نفس وأعتمت كل افق قد يلوح بالانعتاق. ابتداء بالزوجة التي أهملت منزلها وتركت ادارته لابنتها ابتهال المولعة بالإرث العثماني، وصولا إلى ابنها نزار المجاهر بمشاعره، مرورا بالابن الآخر عبد المنعم، الذي يخفي وراء تسلطه انحرافا جنسيا نحو اخته ابتهال، وانتهاء بأم الراوي المتهورة التي تتزوج من ريفي يهجرها مع أربعة أطفال سعيا وراء خلاص فردي في أميركا.
تشكل ثنائية الريفي – المثلي، حجر الزاوية في دراما التفسخ الأخلاقي. فالعنصر الريفي يتناسل زارعا الفوضى في أرجاء حلب وما يرافقها من فقر وتطرف وإجرام. المثلي بدوره يدمغ الطابع البورجوازي بالتقعر ضمن خوائه الداخلي، كحالة هبة ورفيقاتها ممن يظهرن للعلن بثياب العفة، وفي الخفاء يتمدد بهن التهتك والفجور إلى منتهاه.
يتداخل السرد ويتواصل دونما توقف، محققا كثافة حيوية عالية، تعطينا انطباعا قويا بصيرورة الكراهية المتناسلة انحرافا جنسيا يتعشق مع مثيله في النسيج الاجتماعي المتهالك. يأتي التركيز الأساسي على شخصية نزار وتقصي ميوله المثلية، بالتوازي مع شخصية الأنثى المتمردة سوسن، ليضعنا في مسارات شهوة الحياة المقاومة للفناء المقترن بالنسيان. وهي الفكرة التي تتلبس مفهوم “العار ومشتقاته في الحياة السورية”، كتعبير أراد منه الكاتب موازاة رواية العار لسلمان رشدي. بداية بولادة الطفلة المعوقة سعاد، واعتبارها عارا سيقضي على أحلام الأم بعائلة مثالية، ومقابلتها باحتقار سوسن الدائم لأمها. لنصل إلى الراوي؛ هاجسٌ يترجمه انكفاء داخليا على نفسه واستسلاما لقدره. بينما يعيش الابن الأصغر رشيد حياة حالمة من الصعب وصفها، وخصوصاً عشقه المجنون لأخته سوسن، وتعثره في الالتقاء برجولته الرمادية. من دون أن ننسى مشاعر الأم كامرأة مهجورة، كانت تحلم بأن تجذب رائحة عطرها رجلا غامضا تفرد له اسرار انوثتها.
مع شخصية سوسن نتعرف إلى الآخر، المنتمي إلى الأقليات السورية، فواز الذي اعادت تشكيله كرجل، ثم تخلى عنها وهرب إلى أمان الطائفة ويقينها، ثم جان الذي ثبت هروبه من الواقع من خلال فعل التكرار، بعدما عجز عن القيام بشجاعة الاختيار، سواء في حياته في سويسرا أم عبر تجربته كمدرس لغة. بين الرجلين حلمت سوسن بالمجد والشهرة وتعتقت في شهواتها كأنثى جامحة، ثم ركنت إلى أغطية الدين الكثيفة لتخفي طعم الخذلان ومرارة الهزيمة، حتى اكتفت مما تبدى استمرارا للنفاق المتوارث من أجدادها. فأحرقت ملابسها الثقيلة وعادت إلى هيئتها المتمردة، متناسية أن زمن الانفتاح قد ولى، وتمدد مكانه التحرش المتستر بغيرة دينية. وكان رتق غشاء بكارتها بعد حياتها الفاجرة، تخلصا من دنس التقارير المثقلة بالوشاية التي كتبتها رفيقاتها في المدرسة، فأودت بهن وعائلاتهن إلى التهلكة. وهي المشكلة التي ستواجه رشيد حين يرحل إلى بغداد عام 2003 مع أقرانه المجاهدين، ليقع في أيدي الأميركيين، فيشي برفاقه ويضمن نجاته بكتابة تقارير عنهم. تصبح صورته كمقاتل ومجاهد شجاع رمزا يثقل كاهله. هناك يكتسب الفرصة ليكون شجاعا، على رغم اندفاعه ليحارب من اجل قضية لا يؤمن بها، منحته احساس الانتماء الى مجموعة لا تخاف. يختبر لذة مقاومة الجبن، وإمكان استبداله بشعور القاتل!
تبدت نهاية أحلام عائلة، بصورة أمّ تجول في مملكتها الصغيرة بحثا عن التعاطف عبر تشكيها الدائم من نقص الاوكسجين، وسنوات طويلة تمر لا تفارقها صورة سوسن تبصق عليها. حتى تنتبه الى شعور العار الذي يحيط بها من كل جانب فتشعر بالرضا. تكتشف أن شراكات جديدة منفلتة عن القانون وضعت حلب مرة اخرى خارج الزمن، كأنها مقاطعة مستقلة كل ما فيها لا يشبه المدن الاخرى. من هنا يعكس بحث سوسن وأخيها عن أصول العائلة الريفية، فشله الجميع في البحث عن ذواتهم، ورغبتهم في الانتماء مرة اخرى الى الجموع التي امتدحوا لسنوات طويلة قدرتهم على عدم الاندماج بتفاهتها، وهو تأطير علني لتعاظم الخوف!
كانت قسوة الاعترافات ضرورة حتمية لتفكيك الذاكرة تمهيدا لطرد عفنها، والاعتراف بأنهم جميعا كانوا يعيشون متجاورين مع الخوف، الذي تحداه رجل جائع احرق زوجته واطفاله الاربعة ثم انتحر بسكين المطبخ صارخا: ان الموت حرقا اكثر شرفا من انتظار الموت جوعا، سائلا بحرقة: الا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة!؟
كآبة الرواية المفرطة كادت أن تسلب الشخصيات خياراتها، وبدا الوحيد القادر على الانفتاح هو نزار الشاذ، وسوسن النسخة الأنثى منه، التي أوحى جنينها من عشيقها جان بتحذير حول المصير البائس الذي ينتظر من يشيخون دون أن يلتقطوا السعادة.
النهار