صفحات سوريةهوشنك بروكا

“لا صديق للسوريين سوى الإرهابيين”!


هوشنك بروكا

“لا صديق للسوريين سوى الإرهابيين”، هذا ما تقوله الحقيقة السورية وتؤكده، بكل أسفٍ، يوماً إثر آخر، والتي باتت مكشوفةً لكلّ العالمين، أقربين وأبعدين. الثورة السورية، التي بدأت سلميةً، وباتت الآن مساحةً حتى الأسنان، لم تعد ثورةً سوريةً فقط، من سوريا إلى سوريا، أو ثورةً بماركة سورية مسجّلة، كما كان من المفترض بها أن تكون.

الثورة السورية، خرجت، بكلّ أسفٍ، عن حدود السيطرة السورية. الثورة في سوريا، سُجّلت في التاريخ بإسم السوريين، لكنها في السياسة وما تحتها من جغرافيات وديموغرافيات وثقافات متناحرة ليست كذلك.

الثورة في درعا وأخواتها، بدأ بها الأطفال، الملائكة الثورويون، السوريون، لكنها لم تعد الآن كذلك، ملكاً للسوريين فقط. كما النظام خرج عن حدوده وجغرافيته السورية، وأصبح نظاماً يمتد من “إيران الخميني” إلى “لبنان حزب الله” مروراً ب”عراق الشيعة” وخلفهم روسيا والصين، كذا الثورة السورية خرجت عن إطارها السوري، إذ بات يهم أمرها جداً، الآن ومستقبلاً، دول “المحور السني” مثل تركيا ودول الخليج العربي وعلى رأسها السعودية وقطر، و”العراق السني”، ومن خلفه أميركا وأوروبا.

لم تعد الثورة في سوريا، ثورة شعبٍ ضد نظام، أو ثورة شعبيةً ضد طبقة النظام الحاكمة، وإنما تحوّلت، لسوء حظ السوريين، إلى صراع شعبٍ ضد شعب، ودين ضد دين، وطائفة ضد طائفة، وسياسة ثأرية ضد سياسة ثأرية أخرى، وفلسفة قتلٍ ضد فلسفة قتلٍ آخرى، ومحور إقليمي ضد محور إقليمي آخر، وعالم ضد عالم آخر.

الصراع في سوريا، تغيّر كثيراً، لدرجة بات من الصعوبة بمكان الخروج من “حمّامه” بمجرد إسقاط الشعب للنظام. النظامُ، الذي عمل بذكاء، لإسقاط سوريا في هذا الصراع الدموي قبل سقوطه، سيسقط عاجلاً أم آجلاً، شاء من شاء وأبى من أبى، لكن الصراع على سوريا وفيها وبين “شعوبها” سيبقى. سيبقى الصراع دائراً بين سوريا وسوريا، بين الشعب والشعب، والعرب والكرد، والسنة والعلوييين، والمسلمين واللامسلمين، والأكثرية والأقلية.

سوريا التي يبكي عليها السوريون الآن، ويتباكى من حولهم العالم عليها، لن تبقى سوريا واحدة موّحدة. هي، منذ الآن، حيث الدم السوري الكبير يملأ الأزقة والشوارع، وبيوت الله وبيوت العباد على السواء، من سوريا إلى سوريا، فصيحة في تحوّلها إلى “سوريات” دموية، ثأرية، متناحرة، متصارعة: سوريا للسنة، وسوريا للعلويين، وسوريا للأكراد، وربما سوريا للدروز، وسوريا للأقليات الدينية والإثنية الأخرى. تلك هي خارطة “سوريا الصراع” الآن، والتي قد تسقط فيها “سوريا ما بعد الثورة” مستقبلاً.

الكلّ في سوريا؛ في “سوريا الله” كما في “سوريا العباد”، “كلّ حسب حاجته، وكلّ حسب آيديولوجيته” يبكي على سوريا(ه)، كلٌّ يعمل، سواء في الخفاء أو في العلن، لأجل سوريا(ه)، ولا حياة في سوريا “الشعب الواحد”، و”الجغرافيا والواحدة”، و”التاريخ الواحد”، و”الثقافة الواحدة”، فلمن تنادي.

تلك هي حقيقة سوريا الراهن التي سيذهب إليها السوريون في سوريا المستقبل.

هكذا تقول لنا الصور السادية البشعة، التي تصل إلينا يومياً على مدار الساعة، الخارجة عن كل ما يمتّ إلى الإنسان، وثقافة الإنسان، وحضارة الإنسان، وتاريخ الإنسان، ودين الإنسان، بإعتباره “أعلى” خلق الله، بصلة.

هكذا تقول لنا جرائم ومجازر كتائب نظام الأسد الفاشي حتى النخاع، المصّر على معركته ضد الشعب السوري، ومحوه للبلد عن بكرة أبيه، تحقيقاً لشعاره الساديّ، الأكثر من فاشيّ، المعروف: “الأسد أو لا أحد”!

هكذا تقول لنا مرجعيات واستقطابات وانشقاقات المعارضات السورية على نفسها، واختلافاتها، وخلافاتها، التي أدت إلى سقوط سوريا فيما بينها، قبل أن يسقط النظام فيها.

هكذا تقول لنا شعارات “جيوش الله”، و”كتائب الله”، وعكوسها، التي أقل ما يمكن أن يقال فيها، أنها طائفية بإمتياز، لا تمتّ إلى ثقافة الله، بإعتباره رباّ لكلّ العالمين، بصلة.

هكذا تقول لنا “حرية” بعض “الجيوش السورية الحرّة”، التي تظهر في بعض تمظهراتها، لكأنها “حرية” ضد نفسها: “حرية” شعب ضد شعب، ودين ضد دين، وطائفة ضد طائفة، وجغرافيا ضد جغرافيا، وتاريخ ضد تاريخ، وثقافة ضد ثقافة، وإنسان ضد إنسان.

أنّ زج “الجيش السوري الحرّ” ومشتقاته للدين الإسلامي الحنيف، بهذه الطريقة “الجهادية”، “التديّنية”، “المسجدية”، و”المتطرفة” في بعض الأحيان، في الثورة السورية، وتمذهبه الواضح والصريح، ب”دستور” المذهب السني، بإعتباره مذهباً للأكثرية السورية، لكأنه دين ومذهب كلّ سوريا وكلّ ثورتها وكلّ دولتها، أثار ولايزال قلق وخوف العالم، بما فيه بعضه “الصديق” للشعب السوري، وعلى رأسه أميركا وأوروبا، هذا فضلاً عن إثارته لقلق الداخل السوري نفسه، ممثلاً بأقلياته الدينية اللاسنّية، كالعلويين، والمسيحيين، والدرزيين، والإيزيديين، والإسماعيليين، وكذلك القومية مثل الآشوريين، والكلدان، والسريان، والأرمن، والكرد، كثاني أكبر قومية في البلاد، المنحازين حتى اللحظة، كأخوانهم في كردستان العراق، لقوميتهم قبل طائفتهم.

ظهور “الجيش السوري الحرّ”، مع احترامنا الشديد والكبير لتضحياته الكبيرة، ولكلّ قطرة دم من دماء شهدائه، ك”جيش جهادي”، بمظهر “جيش الله المقدس”، لمحاربة “جيش النظام المدنّس”، تحت رايات دينية، طائفية صرفة، لكأنه “الجيش الفاتح” لسوريا، وضع الكثير من إشارات الإستفهام عليه، وعلى قادم سوريا في آن.

هذه “الحرية” المكبّلة بماضٍ ثقيل، والممتدّ إلى أكثر من 1400 عام، كما تفصح عن ذلك أسماء كتائب جيشها، وقيام وقعود قادتها، والمغلقة في بعضها الأكبر على نفسها، والمصرّة كما يبدو من “جاهليتها” على اختزال سوريا في “طائفة” الأكثرية، لا يمكن أن يكون بأي حالٍ من الأحوال، مفتاحاً لتحرير سوريا من الإستبداد.

“الجيش السوري الحرّ”، بهذه “الحرية المغلقة” على طائفته، والتي تمشي عليها وتحت “دستورها” جلّ كتائبه في جلّ معاركها ضد جيش النظام، قد يحرر سوريا من ديكتاتورية الأسد وفاشيته، لكنّ من الصعب عليه جداً أن يحررها من ديكتاتورية الأكثرية: دين الأكثرية، وأيديولوجيا الأكثرية، وحزب الأكثرية، واستبداد الأكثرية.

هذه “الحرية” التي تعلمّنا إياها تسميات وشعارات ومحاكم وقيام وقعود جلّ كتائب هذه “الجيوش السورية الحرّة”، هي بكلّ أسف، في شقها الأكبر “حرية جاهلية”، متخلفة عن ركب الثورة العصرية، المدنية، في بلدٍ متعدد الأديات والمذاهب والقوميات والثقافات مثل سوريا. هي في المنتهى، حرية ذات اتجاه واحد، بدين واحد، ولدين واحد، وتحت إمرة حاكمٍ “إلهيٍّ” واحد.

“العقل الطائفي” الذي تُدار به المعارك، اليوم، في سوريا بين الجيشين “الحر” و”النظامي”، يذكّرنا في بعض تفاصيله الخارجة عن ثقافة الإنسان، بذات العقل الديني الذي كانت تُدار به الحروب الدينية في أوروبا، التي فتكت بأهلها في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وهو الأمر الذي أثار ردود أفعال وانتقادات غير قليلة، سواء في الداخل السوري أو خارجه.

ما يجري على الأرض السورية، اليوم، هو أكثر من حربٍ أهلية، ربما تتحوّل في قادم سوريا، إلى حرب طويلة الأمد، ليس بين نظامٍ وشعبه فحسب، أو بين طائفتين، أو دينين، أو شعبين، أو سوريّتين، وإنما أيضاً بين محورين إقليميين أيضاً: “المحور السني” و”المحور الشيعي”.

كلّ المؤشرات على الأرض السورية، تقول أنّ سوريا قادمة على حرب الجميع ضد الجميع.

الكلّ في الخارج السوري وداخله، يحارب في سوريا وعلى الأرض السورية، لحساباته الداخلية والإقليمية والدولية، على حساب الداخل السوري فقط: الشعب السوري في الداخل، والدين السوري في الداخل، والطائفة السورية في الداخل، والجغرافيا والتاريخ السوريين في الداخل، والحضارة والثقافة السوريتين في الداخل.

لا شكّ أنّ هناك في الخفاء “أصدقاء خفيّون” للسوريين..أصدقاء يعملون في الخفاء، يقومون ويقعدون معهم في الخفاء، يصنعون لهم السلم والحرب في الخفاء، يبكون على فواجعهم اليومية ودمائهم الكبيرة النازفة على مدار لساعة في الخفاء، لكنّ “سوريا العلن” تقول شيئاً آخر. العلن السوريّ، يقول بعد مرور 19 شهراً على “سوريا القربان” وهي تُذبح يومياً من الوريد إلى الوريد، على مذبح العالم، أن “لا صديق علنيٍّ للسوريين إلا الإرهابيين”!

لا صديق علني للثورة السورية، بكلّ أسفٍ، إلا الإرهابيين، الذين دخلوا بسرعة البرق على خط الثوار ضد النظام، فصاروا ملكيين على الثورة أكثر من الملك، وثوريين أكثر من أصحابها، وأعداءً للنظام أكثر من السوريين أنفسهم.

هؤلاء “الأصدقاء الإرهابيون”، الذين فشلوا في خطف الثورات العربية، في بعض دول “الربيع العربي”، نجحت إلى حدٍّ كبير في خطف بريق الثورة السورية، وبراءتها.

هؤلاء “الأصدقاء الإرهابيون” المحسوبون على بعض أجنحة الثورة السورية، العسكرية، لا سيما تلك الكتائب المتطرفة المحسوبة على “الجيوش السورية الحرّة”، ككتائب “جبهة النصرة” القاعدية بإمتياز (تنشر أخبارها على ذات الموقع الذي يستخدمه زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري) وأخواتها، هؤلاء نجحوا إلى حدٍّ كبير في صناعة “الأخطاء الثورية” القاتلة، ومشتقاتها من العنف والتطرّف والإرهاب، لضرب الثورة السورية في الصميم، وخطفها لكأنها “ثورة دينية قاعدية” (من القاعدة)، يُراد بها إعادة سوريا إلى “الزمن الوراء”، و”الدين الوراء”، و”الرسالة الوراء”، و”الخلافة الوراء”، و”الشريعة الوراء”.

أقول كلّ هذا، ليس انتقاصاً من براءة الثورة السورية وأهلها المحقين، دون أدنى شكٍّ، في أن يسقطوا النظام السوري، الأكثر من ديكتاتوري، والأكثر من دموي، والأكثر من فاشي، للعبور إلى سوريا يحكم فيها السوريون أنفسهم بأنفسهم.

لكن اتهام النظام في كلّ شيء، لا يعني في المقابل تبرئة الثورة وأهلها في كلّ شيء.

النظام الخطأ، لا يبرر مسعى البعض من أهل الثورة في أن يركبوا “الثورة الخطأ” في سوريا الخطأ.

ارتكاب النظام لجرائم حرب، لا يعني تقليده في الجرائم ذاتها، كما أثبتت مشاهد فيديو بُثت أمس، تظهر ما يبدو أنه تصفية جماعية لجنود سوريين نظاميين، وهو الأمر الذي أثار ردود أفعال منظمات حقوقية دولية كثيرة، كمنظمة العفو الدولية، التي وصفت عملية القتل هذه، ب”جريمة حرب”.

تحالف النظام مع الشيطان، لا يبرر “تشيطن” بعض الثورة وبعض أهلها، وفقاً لمبدأ الشريعة الحمورابية: “العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم”.

اشتغال النظام على الطائفية واختفاؤه وراءها، لا يبرر “تطييف” الثورة واختباءها وراء الطائفة المضادة.

طائفية النظام، لا تبرر مواجهته ب”طائفية مضادة”، وكراهية النظام الطائفي لاتبرر مجابهته أو إعلان الحرب عليه ب”كراهية طائفية مضادة”، وكذا فاشية النظام، لا تعني بالضرورة السقوط في فخاخ “فاشيةٍ مضادة”.

الثورة في سوريا، لسوء حظ السوريين، لم تعد ثورةً واحدة لشعبٍ واحدٍ ضد نظامٍ واحد، كما قال شعارها ذات سوريةٍ: “الشعب يريد إسقاط النظام”.

الثورة في سوريا، لم تعد ثورةً للسوريين فقط، ضد نظامهم فقط، وإنما تحوّلت بفعل التجاذبات والإصطفافات السياسية في المنطقة، والصراع الإقليمي والدولي على سوريا، بكلّ أسفٍ، إلى “ثورات كثيرة” ضد أنظمةٍ كثيرة، أو “ثورات” داخل ثورة ضد أنظمة داخل نظام.

الثورة في سوريا لم تعد واحدة، كما النظام فيها ما عاد واحداً. سوريا في ثورتها لم تعد ملكاً للسوريين فقط، كما النظام فيها ما عاد ملكاً لنفسه. كلّ شيءٍ في سوريا، بات أكبر منها وأكثر.

كلّ ما يجري فيها الآن، خرج عن حدوده السورية. كلّ ما يجري الآن على الأرض السورية من حربٍ أهلية حقيقية، على حدّ وصف المبعوث الدولي والعربي الأخضر الإبراهيمي، أو “حرب إبادة” على حد قول رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم آل ثاني، يجري بالوكالة داخل الجغرافيا والتاريخ السوريين، لتصفية حسابات إقليمية ودولية، على حساب الدم السوري البريء.

القضية السورية، خرجت بسبب “خيانة” العالم..كلّ العالم لثورتها، من إطارها السوري، في كونها قضية شعبٍ مظلومِ ضد نظام ظالم، أو “سوريا الثورة” ضد “سوريا النظام”.

الصراع على سوريا، بات بسبب هذه “الخيانة الأممية” الكبرى للسوريين، بدءً من “مجلس الأمن” وانتهاءً بآخر “كولبة أممية” أو “دكان أممي”، أكبر بكثير من الصراع فيها، بإعتباره صراعاً بين نظامٍ ديكتاتوري دموي فاشي، وشعبٍ مظلومٍ مكلومٍ مغلوب على أمره، ينزف يومياً على مرأى ومسمع كلّ العالم، مشرقاً ومغرباً.

الكلّ، كلّ العالم، بات يحارب الكلّ داخل سوريا، لحسابات “خارج سورية”، هي في أغلبها “ضد سورية”.

الكلّ، بات طرفاً في الصراع على سوريا.

الكلّ، بات شريكاً في حرب سوريا ضد سوريا.

الكلّ في كلّ العالم خانَ سوريا، وانقلب على سوريا، وداس على دم سوريا، وشارك في قتل سوريا لسوريا، ومشى ولا يزال مع جنازة سوريا.

الكلّ، أدار ظهره لسوريا، حتى لم يبقَ للسوريين صديقٌ إلا الإرهابيين!

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى