أكرم البنيصفحات سورية

لا صراع على سوريا.. بل من أجل سوريا الديمقراطية!


أكرم البني

بدأت الثورة السورية كحركة سلمية، وظهرت في مختلف مفاصل تطورها، بدءا من مظالم أطفال درعا، كمسألة داخلية تتعلق بحقوق الناس في الحرية والكرامة، وليس بأي حسابات أو ارتباطات إقليمية أو دولية، والدليل أنها استمرت لأشهر طويلة كأنها تواجه مصيرها وحيدة أمام آلة قمع لا تعرف هوادة، قبل أن تتقدم ردود الأفعال الخارجية وتتضح مواقف القوى المساندة للنظام كروسيا وإيران ومن يدور في فلكهما، في مقابل قوى انحازت بعد تردد وتحت وطأة الضغط الأخلاقي لما تخلفه آلة الفتك والدمار، نحو دعم مطالب الناس وحقوقهم المشروعة، كالدول الغربية وتركيا وأكثرية البلدان العربية، دون أن نغفل مرحلة اكتظت بالكثير من النصائح والمبادرات من أطراف عربية وإقليمية لمساعدة النظام على تجاوز أزمته، قبل أن تصل الأمور إلى الجامعة العربية وتفشل مبادرتها ثم إلى الأمم المتحدة وخطة كوفي أنان، ويتضح عجز المجتمع الدولي ومجلس الأمن عن أداء واجبه لإنقاذ أرواح السوريين، بسبب «ترويكا» الفيتو الروسي، ما فتح الباب على مصراعيه أمام من يرغب من الأطراف الإقليمية والعالمية للتدخل والاجتهاد في التعاطي مع التطورات السورية الجارية، لكن بداهة ليس على غرار ما عرف بمرحلة «الصراع على سوريا» التي شهدتها خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

صحيح أن باتريك سيل استند في كتابه الشهير «الصراع على سوريا» إلى موقع هذا البلد المفصلي في منطقة حساسة من العالم أو بالتعبير الاستراتيجي «منطقة المصالح الحيوية» الغنية بالثروات الطبيعية وأهمها النفط، منطقة لم تعرف الاستقرار طيلة عقود بسبب التنافس الشديد للهيمنة عليها بين القوى الإقليمية والعالمية وبسبب التحديات التي خلقها تنامي الدور الصهيوني ومخاطره بعد قيام دولة إسرائيل في عام 1948 لتبدو الانقلابات العسكرية التي حصلت وتناوبت على السلطة في سوريا منذ الاستقلال في عام 1946 حتى مطلع السبعينيات كأنها محصلة لصراع القوى العربية والعالمية للسيطرة على هذا البلد والتحكم بموقعه وسياساته.

وصحيح أن التداعيات التي أفرزتها الثورة السورية شجعت البعض على الاستنتاج بعودة «الصراع على سوريا» ربطا بحالة الضعف والإنهاك التي وصلت إليها البلاد جراء العنف المفرط والقمع الدموي الذي مارسته السلطة ضد الاحتجاجات الشعبية، وربطا بانحسار الدور الإقليمي الوظيفي للنظام السوري بعد الاحتلال الأميركي للعراق وانسحاب جيشه من لبنان، وتنامي التدخلات الدولية والإقليمية في المنطقة، لكن الصحيح أيضا أن أصحاب هذا الاستنتاج هم، عن قصد أو دون قصد، يروجون لما يسمى «نظرية المؤامرة» التي دأبت أجهزة السلطة على ترويجها ويصبون الحب في طاحونة النظام الذي يحاول إشغال الناس بالأخطار والتحديات الخارجية للتهرب من الاعتراف بمسؤوليته عن تفاقم أزمات المجتمع ومشكلاته المزمنة، والأهم أنهم يستخفون بتأثير رياح التغيير العربية في استنهاض الشعوب، وبالأسباب البنيوية العميقة التي حفزت الثورة السورية بصورة خاصة وشجعت الأكثرية المهمشة على كسر حاجز الخوف والمطالبة بحريتها وكرامتها.

لقد ارتبطت مقولة الصراع على سوريا وقتئذٍ بالدور المتعاظم للجيش في الحياة السياسية وبتواتر الانقلابات العسكرية التي حركتها مطامع القوى الكبرى في السيطرة على هذا البلد دون الأخذ في الاعتبار مصالح شعبه وطموحاته، لكن المشهد قد تغير اليوم، وها نحن نعيش ثورة تسعى إلى رد الحقوق للناس وتمكينهم من تقرير مصيرهم وشؤونهم، ما يشجع على طرح رؤية جديدة جوهرها اعتبار الصراع المحتدم في سوريا بما يرافقه من مواقف واصطفافات معلنة لقوى إقليمية ودولية مع أطرافه، هو صراع في الساحة السورية وليس صراعا عليها، صراع بين قطاعات واسعة من الشعب تطالب بالتغيير وبحريتها وكرامتها المهدورة وتتحسب أيضا من نيات الآخرين ومطامعهم، وبين سلطة لا تتوانى عن استخدام أشنع وسائل العنف وأكثرها ضراوة وتستعين بكل أصدقائها للدفاع عن بقائها وامتيازاتها، وغير ذلك هو استهانة بالثورة القائمة وبأسباب نهوضها وطعن بوطنية الشعب السوري وبما قدمه من تضحيات لا تقدر بثمن، كي يأخذ قضيته بيده ويضع حجر الأساس لبناء مستقبله الديمقراطي.

والحال، أن الاستبداد المزمن والطابع العسكري للسلطات الحاكمة وتغييب دور الناس وحرمانها من حقوقها، هي شروط تخصّب التربة الحاضنة للصراع على بلد ما وللسيطرة عليه، بينما تغدو هذه التربة عقيمة وقاحلة في حال شيوع الديمقراطية وتقدم إرادة المجتمع في تحديد خياراته، وعليه يمكن القول وبثقة، أن لا صراع على سوريا وما يجري هو صراع داخلي ولأسباب ذاتية أفرزتها أزمة بنيوية متفاقمة طيلة عقود، ولا يغير هذه الحقيقة أن تساند بعض الجهات الإقليمية أو الدولية هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع، في معركتها الخاصة للنفوذ ولتحسين حضورها وموقعها في المنطقة.

إن الشعب السوري الذي يدرك مدى المسؤولية التي يتحملها النظام في فتح الباب أمام التدخلات الخارجية، عندما اعتمد منذ اللحظة الأولى القوة المفرطة، وأنكر الأسباب الحقيقية للازمة وطرق معالجتها سياسيا، وصم أذنيه إزاء كل الدعوات لإبقاء الحل في الإطار الوطني ثم في الإطار العربي، قبل أن يغدو رهين العجز الدولي. يدرك أيضا أنه لن يكون بعد نجاح ثورته صفرا أو نكرة، وأنه بتحرره وخروجه من القمقم وأخذ قضيته بيده، سيكون وحده القادر على الإطاحة، مرة وإلى الأبد، مقولة «الصراع على سوريا» وإظهار أن ما يجري حقا هو صراع من أجل مستقبل ديمقراطي واعد، بين أغلبية عانت الأمرين من القمع والاضطهاد وبين سلطة توغلت إلى نهاية الشوط في القهر والفساد والتمييز، ويدرك تاليا أنه مثلما أسقط في الماضي الكثير من الأحلاف والمشاريع الاستعمارية، قادر بعد ثورته ونيل حريته على إجهاض كل محاولات السيطرة والهيمنة على مقدراته.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى