“لا لا لاند”.. قراءة “لينينية” أكثر قسوة/ محمد استانبولي
من غير المتوقّع أن يغيب فيلم “لا لا لاند” عن العناوين الرئيسة في الفترة القادمة، سواء للإقبال الذي لاقاه من المتفرّجين، أو لما أحدثه من جدلٍ بين النقاد، الذين انقسموا بين من رأى أن الفيلم يعدّ أوّل محاولةٍ حقيقية لإحياء نوع الفيلم الموسيقي Musical منذ شيكاغو Chicago الذي ربح الأوسكار لأفضل صورة عام 2002.
الذين اعترضوا على النقطة السابقة ومكوّنات الفيلم الموسيقي، وصولًا إلى نقدٍ اجتماعيٍ، تناول غياب الأقليّات الإثنية أو الجنسية عن بطولته. وصولًا للخطأ الذي حدث أثناء توزيع جوائز الأوسكار، وجعل نجومه يعيشون لحظات مجدٍ قصيرة قبل أن يُصحّح الخطأ وتذهب جائزة أفضل صورة لفيلم لـMoonlight.
في خضمّ هذا الضجيج، ومئات المراجعات النقدية للفيلم، تبرز إحداها بقراءةٍ “لينينيّةٍ” للفيلم، للفيلسوف الماركسي سلافوي جيجيك، تضع تيمة الفيلم الأساسية، الصراع بين الحب والنجاح الشخصي، موضع المساءلة مقارنةً مع مفهوم الحبّ ذاته عند الثوريين البلاشفة، حتى أنها تفترض نهايةً بديلةً أكثر قسوةً للفيلم.
يبدأ جيجيك قراءته بمناوشةٍ قصيرة مع أولئك الذين يحسبهم على يسار “التصحيح السياسي”، واعتراضهم على غياب الأقليّات عن البطولة الذي يصفه بالأحمق، لتجاهلهم في الوقت نفسه غياب تمثيل الطبقة الدنيا في الفيلم، الذي يبدأ من مئات العاطلين من العمل الذين يرون في هوليوود الفرصة لبدءِ مسيرتهم، وتتلاشى قصص بؤسهم بفعل التركيز على الفردين الناجحين، وكأنّ حبّهما هو ما يجعلهما مميّزين وناجحين.
وبعد مرورٍ سريع على القصّة في الفيلم، يقف الهنغاري عند الدقائق العشر الأخيرة منه، التي تقدّم عبر الخيال أو الفانتازيا الفيلم بنسخة هوليوودية كلاسيكية.
إن هذا التصوير، وفقًا لجيجيك، هو ما يعطي الفيلم المرونة، “فالفيلم يقدّم عبر نفسه كيف يجب أن ينتهي وفقًا لنوعه Genre الذي ينتمي إليه”.
ويوضّح هذه النقطة عبر المقارنة مع فيلم (الأضواء – Limelight)، لتشارلي تشابلن، وما قاله الناقد الفرنسي أندريه بازان عنه لكونه “فيلمًا عن مسيرة تشابلن التي بدأت تخفت، لكنه قائمٌ بذاته: “لا يحتاج المشاهد إلى معرفة مسيرة تشابلن في بداياتها ليستمتع به، والأمر ذاته في (لا لا لاند)، الذي يبتعد تدريجيًا عن نوع الميوزيكال، متحولًا إلى (ميلو) دراما، حتى نهايته، حين نصبح أمام فيلمٍ موسيقي مجددًا يظهر عبر الفانتازيا”.
هذه المرونة هي ما يعطي الفيلم عمقًا على صعيد البعد النفسي. يقتحم فيها عالم الشخصيات الحقيقي أحلامها في النهاية، لكنه في الوقت نفسه يترك سؤالًا عمّا حدث فعلًا في نهاية الفيلم، وأسئلةً عدّة ترتبط به.
إن القراءة الأولى للفيلم، كما يضيف جيجيك، تُعامل حبكة الفيلم، وقصّة الحب، على أنها مستندة لتيمة “استحالة وجود علاقة جنسية” التي تحدث عنها لاكان خلال محاولته تحليل الحب كوهم وما يعوّضه. فمسيرة البطلين الناجحة هي المسؤولة عن فسخ علاقتهما، كأنها جبل الجليد وما فعله بـالتايتانيك كما يقول جيجيك، ووفقًا للقراءة ذاتها، فإن الجزء الأخير من الفيلم، الخيالي، هو محاولة من الاثنين لإنقاذ وهم الحب، وإخفاء استحالة علاقتهما، التي كانت ستحوّلهما لزوجين فاشلين إذا ما استمرّا بها.
هنا، يقترح جيجيك نهايةً بديلة، معقّدةً بعض الشيء، فيها “تبقى ميا وسيباستيان سويةً، ويتمتّعان بالنجاح المهني لكن يعيشان حياةً خاوية، فيذهبان إلى أحد النوادي الموسيقية ويتخيّلان هناك حياةً متواضعة لكن سعيدةً بعد أن يكونا قد تركا مسيرتهما المهنية، (وفي حلمٍ داخل الحلم) يعودان ويتخيّلان أنهما لم يتركا مسيرتهما وافترقا، وبالتالي يتذكران بشكلٍ حميمي فرصة حبّهما التي لم تتحقق”.
ينوّه جيجيك لفيلم Family Man الذي يحوي نهايةً قريبة، تنتهي بأن البطلين ينجحان في مسيرتهما ويعودان سويةً بعدها، وهي نهاية “متفائلة بشكل رخيص” تفاداها “لا لا لاند”.
عودة إلى ما حدث فعلًا في نهاية الفيلم، يرى الفيلسوف الماركسي أنه ليس ببساطة تفضيل خيار المسيرة المهنية على العلاقة العاطفية. فالعلاقة لعبت دور الوسيط الخفي في إنجاح مسيرتهما، وبالتالي، يصبح الفيلم خاضعًا لفورمولا هوليوودية ينجح فيها عاشقان في حياتهما، لكن ليس كعاشقين، في تقديمٍ نرجسي لتفضيل حاجةٍ شخصية على الحب؛ الأمر الذي يضع حبّهما في الأساس موضع التساؤل، وحتى مسيرتهما التي تصبح إذن تجاريةً دون بعدٍ فني أو قضية، كون هذين المسارين المتنافسين يتطلّبان التزامًا غير مشروط وبينهما علاقة عضوية ستتّضح، فتصبح حياة كل من سيباستيان وميا خيانةً لوجودٍ يتطلّب الصدق.
علاوةً على ذلك، فإن القراءة السابقة تُغفل لغزًا في الفيلم: من كان المُتَخيّل في الفانتازيا نهاية الفيلم؟ وهنا يردُّ جيجيك على النقّاد الذين وصفوا الفيلم بانحيازه للذكورة، فميا هي الشخصية الرئيسة في الفيلم، والمتخيّلة، وخياراتها كانت أكثر منه، وهو ما تؤكّده حال الشخصيتين في نهاية الفيلم، ميا (النجمة الكبيرة) وسيباستيان (مالك نادي جاز متواضع).
إضافةً لذلك، فإن الحوار بين البطلين يوضّحان هذا الفرق بالبطولة والنهاية التي وصلا إليها، فحين يعلن سيباستيان لميا أنه سينضم إلى فرقة موسيقية ويقوم بالجولات، لا تسأله ميا عما يعنيه هذا لهما، بل إذا كان هذا ما يريده فعلًا.
ما يجيب عنه سيباستيان بأن العزف يعني عملًا مستقرًا (كون العامّة يحبون ما يفعله) ويوفّر له فرصة لتوفير النقود لافتتاح نادي الجاز، بهذه البساطة، وهو ما يزعجها لأنه سيخون نفسه بهذه الطريقة، وما يريده.
وفي الحوار الثاني، بعد تجربة الأداء، يقول سيباستيان لميا إن التمثيل ليس مجرّد فرصة عمل، بل رغبتها الحقيقية، ما يجعل ترك التمثيل يعني تدميرها لذاتها، وبالتالي لحبّهما كون هذا الحب ينطلق من التزامٍ مشترك تجاه قضية، ما يجعلها الأصدق.
من هذه المفارقات ينطلق جيجيك ليوضّح موقفه من الصراع بين الحب والقضية؛ فالتفضيل بينهما مرفوضٌ أساسًا. الحب لا يجب أن يوضع كهدفٍ أساسي، بل يجب أن يكون ناتجًا لشيءٍ آخر، وبالتالي يجب أن نستحقه. وتصبح المعادلة كالآتي: “أستطيع النجاة من دونكِ، حتى لو كنتِ كل شيءٍ بالنسبة لي، وأنا مستعد لأن أتركك لأجل مهمّتي أو قضيتي”، ويكون ردّ المرأة حينها بأن “تخونه” في لحظةٍ مفصلية من مسيرته (كالحفلة العلنية الأولى في الفيلم، أو الامتحان، أو صفقة العمل التي ستحدّد مسيرته). فإذا نجا من آثار هذه الصدمة وأنجز مهمّته بينما يكون متألمًا من تركها، استحقها وعادت إليه.
وينتقل بعدها إلى سؤالٍ أعقد: كيف يؤثر الالتزام بقضيةٍ تفيد “الصالح العام” على الشغف الإيروتيكي؟ يجيب جيجيك عن السؤال هذا بالحديث عن مفهوم العلاقة في زمن الثوريين البلاشفة، حيث يعيش اثنان حالة طوارئ دائمة، مكرّسين نفسيهما للقضية الثورية بشكلٍ كامل، مستعدّين للتضحية بالحاجة الجنسية وتركها، وحتى خيانة بعضهما إن تطلبت الثورة ذلك، بينما يكونان في الوقت نفسه مخلصين لبعضهما، مستمتعين بلحظاتٍ قصيرة سوية، حميمية لأقصى حد، بحيث تكون العلاقة العاطفية خفيّة في العلن، لا أهميّة لها للآخرين، ما يمكن اقتفاء أثره في علاقة لينين مع إنيسا أرماند، كما يقول جيجيك.
ثم يختتم قراءته هذه بالأسئلة: “ألا يحدث الشيء نفسه في (لا لا لاند)؟ ألا تأخذ ميا بالخيار (اللينيني) تجاه قضيتها؟ ألا يدعم سيباستيان خيارها؟ وألا يبقيان بالتالي مخلصين لحبهما؟”.
جيل