لا لكيانٍ للمسيحيين السوريين/ نجيب جورج عوض
من المسائل التي يبحثها السوريون المعنيون بمصير بلدهم ومستقبله، بعد انتهاء المأساة، طبيعة (وتركيبة) سورية الدولة (فيدرالية إدارية لامركزية أم العكس). وأحد الأسئلة هنا بشأن قاعدة إعادة توزيع الشعب السوري، ديمغرافياً وإدارياً ومناطقياً. ومن الأفكار المطروحة في المسألة تمكين الأقليات القومية والإثنية من تشكيل كيانات إدارية (أو حتى دولتية) خاصة بها ضمن أراضي سورية فيدرالية لامركزية. وقد عرض علي معارف محترمون في الأوساط المسيحية مشاريع مكتوبة لتأسيس نوعٍ من الكيان المسيحي القومي داخل سورية المستقبل (وبتشجيع من بعض صناع القرار في الغرب)، أسوة بمطالبة الأكراد بتأسيس كيان قومي قائم بذاته، وأسوة بدفاع أطياف أخرى في الشارع السوري عن الكيان القومي العربي لسورية المقبلة. قرأتها، بناء على طلب من عرضها علي، وطلب إبداء الرأي حولها، وعبّرت عن رفضي الكلي لها ولطرحها، خصوصا في ضوء قـَرن المسيحية بها. أرفض أي مشروعٍ يدعو إلى تأسيس كيان قومي، أو ثقافي مسيحي قائم بذاته مجتمعياً، أو حتى إثنياً في سورية، أو في أي بلد لسببين:
أولاً، يُعتبَر مفهوم “قومية” بحد ذاته في عالم اليوم ما بعد- الحداثوي ميتاً وبلا معنى، إذ لم يعد يعوِّل عليه معرفياً أي أحدٍ في الأوساط الثقافية والأكاديمية في الغرب؛ مسقط رأس هذا المفهوم، المُصطَـنَع معرفياً في أواخر القرن التاسع وفي سياق تنظيرٍ فكري سوسيو- سياسي، طبع عصر الحداثة. وقد تم توظيف فكرة “قومية” في العقود الأولى من القرن العشرين، في
“يعمل المسيحيون دوماً على تشكل كيانات تشاركية وتفاعلية وليس كيانات مغلقة” سيرورة انتقال السياق الغربي السياسي (ومعه المشرقي بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية) إلى كياناتٍ أممية تُعرِّف نفسها بدلالاتٍ سياقية وإيديولوجية، تدور حول فكرة “الكينونة القائمة على مبدأ الاكتفاء الذاتي وتحقيق الذات”. ما عاد العالم اليوم يتداول فكرة “قومية”، لأن فكر ما بعد الحداثة يدور حول منطق “العلاقة مع الآخر” و”التواصل” و”التفاعل”، وليس “تحقيق الذات” و”الاكتفاء الذاتي”. نتحدث معرفياً وعلمياً اليوم عن “ثقافات” (لا بل عن بي- ثقافات/intercultures) وليس عن “قوميات”، فلا معنى لطرح “كيان قومي مسيحي”، ولا مكان، في سياق الفكر العالمي المعاصر. وينسحب الأمر على فكرة تأسيس “كيان قومي عربي”، أو “كيان قومي كردي” أو، أو. الحديث ذو المعنى اليوم يقول بثقافة كردية أو ثقافة عربية أو ثقافة أمازيغية أو ثقافة سريانية/ آشورية… إلخ.
ثانياً، لا أرفض فقط اعتبار المسيحية “قوميةً”، بل وأزعم أن اعتبار المسيحية “ثقافة”، وبالتالي الدعوة إلى تأسيس كيان مسيحي ثقافي مستقل أمر غير مصيب. منذ نشوء جماعة يسوع المسيح في القرن الأول الميلادي، والمسيحيون لم يكونوا يعتبرون أنفسهم كيانا ثقافيا قائما بذاته في مواجهة وتوازٍ مفارقين مع الثقافات السائدة وقتها: الهيللينية، الشرقية، الرومانية، الهندية، الصينية… إلخ. لا بل إن المسيحيين الأُول لم يعتبروا أنفسهم أتباع “دين” قائم بذاته، بل أتباع طريقةٍ في الإيمان بالله والعلاقة معه، في ضوء فهمهم لتلك العلاقة من خلال ما تعلموه من يسوع الناصري. ولهذا، نقرأ في نصوص واحدٍ من أقدم آباء المسيحية في القرن الثاني ميلادي، أثيناغوراس، تأكيده أن المسيحية إعلان نهاية الأديان برمتها، وليس ولادة دين جديد، إلى درجة أن المجتمع الروماني وقتها كان يعتبر المسيحيين، كما يقول أثيناغوراس، “ملاحدة الإمبراطورية”. الدعوة إلى تأسيس كيان مسيحي ثقافي (وليس فقط قومي) دعوة نافلة، وبلا معنى، ولا تماهي مع طبيعية المسيحية الأصلية. ليست المسيحية ثقافة، وإن ساهم المسيحيون عبر التاريخ، فكرياً ومجتمعياً وإنسانياً وأدبياً وفنياً وسياسياً واقتصادياً وبشرياً، وبشكل فاعل وعميق، في تشكيل ثقافات وحضارات عديدة في المشرق والمغرب، فهم جزء من المجموع البشري الذي ساهم في إنتاج الثقافة/ الحضارة العربية- الإسلامية في المشرق، وكذلك كانوا أيضاً من المساهمين (مع اليهود) في إنتاج الثقافة/ الحضارة الهيللينية في العالم الروماني القديم، مثلما ساهموا في تشكيل ثقافات عصر النهضة وعصري التنوير والحداثة، وصولاً إلى ما بعد الحداثة في عالم اليوم. ولكن، لا يجعلهم هذا، بحد ذاتهم، كياناً بشرياً منفصلاً عن الآخرين، بدلالات ثقافية (ناهيك عن قومية) قائمة بذاتها، تشكل ما يسمى “كيانا ثقافيا مسيحيا”.
في ضوء النقطتين السابقتين، أنتقد بشدة دعوات نسمعها في الأوساط المسيحية عن تأسيس كيان
“ليست المسيحية ثقافة، وإن ساهم المسيحيون عبر التاريخ، وبشكل فاعل وعميق، في تشكيل ثقافات وحضارات عديدة في المشرق والمغرب” مسيحي سوري، بدلالات قومية (كما يفعل بعض السريان/ الآشوريين) أو ثقافية (كما بدأ يفعل بعض الأرثوذكس، متأثرين بفكر مسيحي انعزالي آتٍ من لبنان) في سورية المستقبل. لا بل وأدعو جميع الشرائح السورية (بما فيها العربية والكردية) التي تصرّ على تعريف نفسها بدلالة فكرة “القومية”، أو بدلالة فكرة “الثقافة”، للتأكد ما إذا كانت أيٌّ من الفكرتين تنطبقان على طبيعتها وتركيبتها السوسيولوجية والتاريخية والمعرفية، وما إذا كان تقديم الذات بدلالة أحد هذين المفهومين يضع تلك الشرائح فعلاً في سياق عالم اليوم والفكر المعاصر، أم أنه يحبسها في غياهب فكر ماضوي تراجعي ونكوصي، ما عاد يُعوَّل عليه اليوم، وما عاد يُعتبَر فكراً مرجعياً في تفسير الذات والوجود.
المسيحيون، كما يقول تاريخ المسيحية، مساهمون فاعلون ومركزيون، أينما وجدوا، في بناء ثقافات وحضارات جامعة مع باقي التجمعات المكوّنة معهم، لكيان شعوبي أممي في منطقة جغرافية ما. وهم يعملون دوماً على تشكل كيانات تشاركية وتفاعلية، وليس على إيجاد كيانات ضيقة ومغلقة، تقتل أفرادها وتخنقهم في إقصائيتها وانعزاليتها، قبل أن تعادي سواهم، وتقصيهم بعيداً عنها. وفي النهاية، ما تتحتاجه سورية المستقبل هو التكافل والتعاضد بين المتعدّدين والمتنوعين، لا شيء آخر.
العربي الجديد