لا مانع من الهزيمة في سورية
د. سمير التقي
يلف الإرباك مجمل الموقف الأمريكي في الشرق الأوسط، خاصة في الشأن السوري، فحين تندفع الإدارة الأمريكية في الحديث عن تسليح المعارضة السورية واستبعاد انعقاد قريب لمؤتمر جنيف، ثم تصمت فجأة وتتعسر خطواتها في بلورة رد مناسب على الاستهبال الروسي لأوباما، وحين تستسلم أمريكا لإلحاح روسيا بضم إيران إلى طاولة المفاوضات، تتويجاً لتدخلها المباشر في الشؤون الداخلية لدولة مستقلة، في حين تتذرع الديمقراطيات الغربية بذات القانون الدولي في خنق الثورة السورية، فإن مجمل هذه الوقائع تشكل حدثاً لافتاً.
راهن أوباما بكل أوراقه على حسن نوايا بوتين و’حكمة’ القيادة الإيرانية في وضع أولويات سياسته، وصارت الأزمة السورية مجرد كابوس دموي يعكر له رؤيته الوردية لإنجازاته على صعيد الدبلوماسية الدولية، فهو لا يزال يلاعب الروس حول محطة الرادار في تركيا، ونفط وسط آسيا وخروج قواته من أفغانستان واحتواء الصين.. الخ. وهو يعتقد مطمئناً أن الولايات المتحدة أمسكت بخناق إيران في كل الملفات الأساسية. لكن أوباما لا يريد أن يصدق أن صورته الوردية هذه للعلاقات الدولية تبهت وتتآكل، ويرفض أن يرى هذه اللوحة التي بنى عليها استراتيجيته تصبغها الدماء الحمراء لأطفال سورية.
النظرية الأساسية التي ينطلق منها أوباما في كل ملفات العلاقات الدولية، هي أن على أمريكا أن تكف عن تحمل مسؤوليتها كقوة رئيسية في العالم، وألا تتدخل في أي من الأزمات إلا بناءً على مصلحة محددة مباشرة للولايات المتحدة، لذلك يركز خصوم الولايات المتحدة على ضربها في الأطراف التي لا تعتبرها مهمة، وتحقيق تقدم وانجازات على الأرض في كل مكان لا تعتبره الولايات المتحدة خطراً أمنياً مباشراً وملموساً عليها.
من هذا المنطق يحاول أوباما تبرير هزائمه ليرى فيها نصراً، فها هو ينسحب مهزوماً من العراق، بعد أن اعترف بانكساره في الأنبار، وفرض على أهلها دستوراً يكرس هزيمةً تاريخية للسنة العرب، تاركاً مخلفاته وراءه ليبتلي بها الشعب العراقي، من خلال دستور يؤسس لهذه الهزيمة التاريخية للعرب السنة بل يؤسس لسلام ما بعده سلام في العراق. فلكي يظفر بهزيمة (مشرفة) في الأنبار كما يعترف الأمريكيون- تخلى عن مسؤولياتها حتى كدولة محتلة، ليخرج مهزوماً وليترك العراق لتسقط في حرب طائفية إقليمية لا قرار لها.
وكذا الأمر في أفغانستان، فحين تطلبت ميزانيته تخفيضاً أساسياً فيها، ها هو يغادرها ليعيد تسليمها ‘للإرهابيين الطالبان’، مشهراً هزيمته التاريخية أيضاً.
وهكذا في الحالتين، يلفلف الأمريكيون هزيمتهم ويرمون دولتين مهمتين في أتون صراع سياسي لا قعر له، لتدير الولايات المتحدة ظهرها لمسؤولياتها الأخلاقية الدولية بحدها الأدنى، فهي التي دخلت وهي التي خربت وهي التي تخلت، بل سيفاجئك الأمريكيون حين يحاججونك من منطق أن ‘ماذا نفعل مع هذه الشعوب الهمجية الدموية غير المتحضرة، فهي لا تزال مصرة على القتال والصراع إلى ما لا نهاية، فهذا هو الشرق الأوسط وهذا هو العالم الإسلامي، مليء بالعصبيات والحماقات والدماء’.
إذاً تعتقد الإدارة الأمريكية أن قوتها تسمح لها بترف الهزيمة هنا وهناك، لكن الموضوع أعمق من ذلك بكثير، فلقد سبق للولايات المتحدة أن تخلت عن كل شعوب أوروبا الشرقية في صفقة يالطا مع ستالين التي تم فيها تقسيم العالم، والتي سلمت فيها رقاب كل القوى الديمقراطية الأوروبية الشرقية لمقصلة ستالين المظفر.
على القيادات السياسية في الثورة السورية أن تتأمل هذه الحقائق بإمعان، وأن تتوقع في كل لحظة أن تدير الولايات المتحدة ظهرها لكل ما تقول، عند أول إيماءة من بوتين أو خامنئي، فالإدارة في وضعها الراهن فاقدة للإرادة، وستبقى غارقة في إرباكها، تتخبط في ردة فعل طالما لم تتمكن من إدراك الموقع المركزي، للشرق الأوسط والخليج العربي في السياسة الدولية، وطالما تغريها الرؤية المبسطة للعالم، عن انزياح مركز الثقل إلى الشرق- الصين، فالعالم لم يعد بمركز ثقل واحد، وهزيمة تكرسها في بؤرة ما، ستنعكس على مجمل الصراع الدولي.
تعلمنا السياسة الأمريكية الراهنة، أن النضال الديمقراطي في منطقتنا لا يمر بالتحالف مع الديمقراطيات الغربية، فلقد تخلت زمناً في يالطا حين تطلبت مصالحها، ثم عادت حين أصبح من الممكن هز اشتراكيات شرق أوروبا. والآن لم يعد من الممكن تصور نضال ديمقراطي سلمي مع تخلي الغرب عن ذرائعه، ولا بد أن يمر النضال الديمقراطي بطريق الثورة الفرنسية.
تشير مفاوضات كيري – لافروف إلى أن الولايات المتحدة ستقبل بوجود إيران حول طاولة المفاوضات في جنيف، وتنكفئ الولايات المتحدة الآن، في إعادة الاعتبار للدولة الروسية والإيرانية، الأمر الذي يسفر بدوره عن عودة تلكؤها تجاه الثورة السورية، فبعد أن أعلنت الإدارة أنها أصبحت تعرف ‘الصالح من الطالح’ من ثوار سورية، ها هي تترك حمص فريسة لوحشية القصف والذبح، الذي تقوم به قوات أجنبية غازية، وبذلك ينتقل الصراع مرةً أخرى إلى حضن قوى الثورة السورية، فهي التي ستحقق الانتصار، وهي التي أنجزت حتى الآن عملية هدم السلطة والنظام، وعليها التفكر الآن في عملية البناء.
وإذ تدخل المفاوضات مرحلة حرجة فعلينا أن نتوقع أن تمارس أمريكا ضغوطها على مختلف قوى الثورة، للمشاركة في جنيف كما يتم إعداده، وبذلك تحول الولايات المتحدة هذه المفاوضات إلى مفاوضات إقليمية على الكعكة السورية. فلئن كانت المعارضة السورية ترفض حتى مفهوم الحرب الأهلية، فإن بشار الأسد يحاول تحويل جنيف إلى نموذج (دولة/متمردين) شبيه بمفاوضات أوجلان مع أردوغان، التي تجري تحت سقف سيادة السلطة التركية، وها هي تنتقل الآن لتصبح مفاوضات بين شركاء دوليين، يلفلفون الوضع السوري بما يخدم مصالحهم، لتغرق سورية في (سلام) ما بعده سلام، وفي حروب دامية لعقود.
أما الشكل الوحيد الممكن للخروج من المفاوضات ويضع البلاد على طريق الخلاص، فهو التفاوض بين ندين أو طرفين يتنازعان القوة والسيادة. هذا المفهوم لمفاوضات جنيف لم تعره القوى السياسية للمعارضة في الخارج أي اهتمام، ولم تؤسس له لا من وجهة نظر القانون الدولي، ولا من وجهة النظر السياسية، ولا الإعلامية ولا التفاوضية. لن يهتم الأمريكيون بأن يقال عنهم بأنهم خسروا، فلقد فعلوها كثيراً، وهم لا يزالون يؤمنون بترف هزيمتهم هنا وهناك. وكل خوفنا هو أن يجبر الرأس السياسي الهش للثورة على القبول بلفلفة الشأن السوري، فيكتفي المعارضون بالقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ويستمر شلال الدماء بالتدفق، ويستمر الأمريكيون بحديثهم عن تلك الشعوب والقبائل المتصارعة الحمقاء، التي لا تعرف أن تبني وطناً.
أما ثورتنا المجيدة فيجب أن تدرك الطريق الصحيح، وتشق طريقاً آخر.
‘ رئيس مركز الشرق للدراسات ـ دبي
القدس العربي