لا “ممانعة” ولا “اعتدال”
كمال ديب
ثمّة بديهيات يرغب كثيرون في إهمالها لأغراض سياسية محليّة، أو تجاهلها حسب مقتضيات كل ظرف. وثمّة كثيرون أيضاً يجهلون هذه البديهيات ويتلّهون بالجزئيات تحكمهم عنجهية عمياء أنّهم يعلمون كل شيء ولا يحتاجون إلى المعلومة.
أولاً، نكرّر هنا ما ذكرناه في مقالات سابقة في “النهار”، من أنّ لبنان ومنذ اتفاق الطائف باتت تحكمه أربعة قصور بصرف النظر عن ساكن كل منها: قصر بعبدا وقصر السرايا وقصر عين التينة وقصر المختارة. وحالياً يشكّل الرباعي سليمان – ميقاتي – برّي – جنبلاط النظام الحاكم في لبنان، والمرضي عنه إقليمياً ودوليا، وخاصة من الولايات المتحدة (يساند هؤلاء الأربعة في الكواليس القادة الرسميون الأمنيون والعسكريون). أمّا خروج سوريا من لبنان عام 2005 ودخول هذا الفريق السياسي أو ذاك إلى الحكومة والبرلمان فلا يُثبت أنّ السلطة قد خرجت من أيدي الرباعي الذي يتمتّع بدعم النيوليبرالية العالمية.
ثانياً، كما ذكرنا في كتابنا “هذا الجسر العتيق سقوط لبنان المسيحي” (“دار النهار” 2008)، فإنّ من مفاعيل اتفاق الطائف (1989) ونهاية الحرب اللبنانية (1990) أنّ لبنان بوجهه المسيحي والذي استمرّ بقوة حتى ربيع 1976، قد انتهى بمباركة الرياض وواشنطن وباريس والفاتيكان وأخذ مكانه “لبنان المسلم”. وهذا التغيير كشف مشكلة جديدة هي أنّ “لبنان المسلم” كان بوجهين أيضاً، ليدخل لبنان في صراع سنّي – شيعي على مراكز النفوذ وتصفية تركة المسيحيين وكأنّها تفليسة. ولهذا فعندما يقع انفجار في الأشرفية – منطقة مسيحية في شرق العاصمة – يُصبح سقوط ضحايا مسيحيين وتدمير ممتلكات مسيحية “خسائر جانبية” collateral damage أمام الخبر الرئيسي. وبعد كل خضّة تستطيع القوى الشيعية والسنيّة أن تحافظ على مواقعها ومتانة وجودها بفضل ثقلها الديموغرافي وامتداداتها الاقليمية، فيما لا قدرة للمسيحيين سوى على التراجع والقوقعة. خاصة أنّ نصيحة الغرب للمسيحيين جاهزة: “خذوا الفيزا وتعالوا”.
ثالثاً، انّ المنطقة العربية ما زالت تعيش تداعيات الحدث الإيراني منذ عام 1979 والذي أشعل حرباً داخل الإسلام (كما يقول أدونيس) شبيهة بحرب الثلاثين سنة بين الكاثوليك والبروتستانت في اوروبا في القرن السابع عشر (1618 – 1648) والتي انتهت بصلح وستفاليا الذي كان أساس قيام النظام الأوروبي المستمر إلى اليوم. وما ذكره مرشد الثورة علي خامنئي قبل عامين من أنّ “الربيع العربي” هو استمرار “للثورة الاسلامية في إيران” صحيح. ولذلك تتعامل إيران الرسمية بإيجابية كبيرة مع وصول الاسلاميين إلى الحكم في مصر وتونس وليبيا وغيرها. ومن نافل القول إنّ هذه الحركات الدينية بما فيها النظام الإيراني تصبّ في النهاية لغير مصلحة تقدّم المجتمعات وتطويرها وتنضح عن رجعية غير تنويرية لا داعي للخوض في تفاصيلها هنا. وكلّ من السعودية وإيران تعاونتا مع أميركا لاحتلال أفغانستان والعراق وخلافهما سطحي لا يخالف مسار العولمة الاقتصادية. إذ المطلوب ليس ضرب إيران بل عودتها حليفة لأميركا ومعها باقي الشلّة الإسلامية.
خامساً، ثمّة تشابه كبير بين هجوم القوى الإسلامية في الدول العربية على اليسار والقوى المدنية والعلمانية، من العراق إلى لبنان وتونس وليبيا ومصر والسودان واليمن، إلخ. ولا ينسى المرء أنّ القوى الشيعية التقليدية في لبنان لعبت الدور الأكبر في القضاء على الشيوعيين والقوميين واليساريين اللبنانيين في الثمانينات: في مشغرة والجنوب والضاحية وغرب بيروت. كما قام جعفر نميري في السودان بضرب الحزب الشيوعي السوداني عام 1969 وضرب السادات قوى اليسار المصري في حركة 15 ايار 1972، وتمّت تصفية الحزب الشيوعي العراقي على أيدي البعث ثم تمّ إجتثاث البعث في العراق لتحلّ مكانه قوى دينية موالية لإيران وقوى أخرى سلفية موالية للخليج.
رابعاً، الحدث السوري هو في بعض أوجهه استمرار للصراع القديم بين البعث والأخوان. لقد كانت خطيئة البعث أنّه في صعوده إلى السلطة في سوريا قضى على الحزب الشيوعي السوري للحصول على الرضى الأميركي، وقضى على الحزب السوري القومي لأنّه كان مدعوماً من العراق والأردن (البريطانيي الهوى آنذاك). وهذان الحزبان، القومي والشيوعي، علمانيا النزعة والعضوية. فبقيت جماعة الأخوان الدينية تناحر نظام البعث وتقضّ مضاجعه في مراحل تاريخية في 1964 و1965 ومن 1976 إلى 1982، وحالياً منذ مطلع 2011.
خامساً، لا يمكن دفن الرأس في التراب وعدم رؤية الحقيقة الواضحة وهي أنّ الأزمة في سوريا صراع إقليمي دولي لا علاقة لها بالدمقرطة. وأنّ من يدفع الثمن هو الشعب والاقتصاد السوريان. فيتذوّق السوريون اليوم ما خبره اللبنانيون من أنّ الحرب تعني أن يخرج الانسان من بيته، ويتهجّر في بلده، ويموت ويتعرّض للأذى والإهانة جسدياً ومعنوياً، ويصبح سلعة للمساومة بين الدول، ويدمر اقتصاده وتصبح مدنه قاعاً صفصفاً.
لذلك فهذه الحرب المجنونة في سوريا وهذا الخراب مرفوضان من اساسهما.
استاذ جامعي – كندا
النهار