لبنانيون في ضيافة الدم السوري
عمر قدور
“التورط في سوريا بصفته خلاصاً”؛ هكذا عنون الزميل ساطع نور الدين افتتاحيته لجريدة المدن قبل أسبوعين، وجاء فيه: “النداء السوري هو بمثابة أمر عمليات موجه إلى جميع المقاتلين اللبنانيين الذين كانوا يعانون من البطالة، ويكابدون الفراغ، ويفترض أن يفسح لهم المجال لكي يساهموا في حماية النظام السوري أو في سقوطه”. هذه السخرية المرّة الراقية ستتحول إلى خطاب مثير للاشمئزاز، لا للرثاء فحسب، عندما تصبح خطاباً رسمياً معتمداً يروّج له زعيم حزب الله بالقول: “ما يجري في طرابلس يجب أن يتوقف فوراً، فمن يريد نصرة المعارضة السورية أو النظام ليذهب للقتال في سوريا”.
لو لم يحاول زعيم الحزب تبرير تدخله في سوريا وعدوانه على الأراضي السورية بالأسطوانة المشروخة ذاتها عن حماية محور المقاومة لكانت صراحته في القول السابق تستحق بعض “التقدير”، على رغم تأخرها وإضاعة الوقت بالإنكار واختراع الذرائع. لكن أن يدعو اللبنانيين إلى تصفية حساباتهم في الساحة السورية للتنفيس عن احتقانات طرابلس وغيرها، بدلاً من العمل على إزالة مسبباتها الداخلية المزمنة ودوره مع النظام السوري في تأجيجها، ثم يعود إلى أسطوانة المقاومة إياها فهذه ركاكة غير لائقة، وكان من المستحسن عدم الوقوع فيها في تشييع مهيب، كالذي جرى، لفكرة المقاومة ذاتها. لكن تلك اللافتات الضخمة التي تعد بأن الحزب لن يتخلى عن فلسطين بعد أن تخلى الآخرون عنها، وتلك التي تتوعد بتسوية حيفا وتل أبيب بالتراب، تظهر كبهرجة فضفاضة جداً على فحوى الخطاب، ولا تؤدي وظيفة سوى إظهار المفارقة الشاسعة بين ماضي الحزب وحاضره، وعلى الأرجح تدين الحزب من دون أن تشفع لماضيه لأنها تبرز الشعارات بوصفها لم تكن يوماً إلا تورية لممارسات مغايرة.
مع ذلك، لم يعد مهماً إظهار ذاك النفاق الذي يطبع أدبيات الحزب، والذي ليس جديداً البتة، فنوايا الحزب خرجت إلى العلن مبكراً، وفي مدة تناهز عمر تحرير الجنوب، فكانت السخرية اللاذعة هذه المرة بأن تخلصت إسرائيل من عبء الحزب، بانسحابها من طرف واحد، ورمت به على اللبنانيين. أي أن تحول الحزب شمالاً ليس وليد الثورة السورية، فهو بدأ فعلاً منذ قرر الانقضاض على الدولة اللبنانية واستنزاف الصيغة اللبنانية المهلهلة، وفي حالة غير نادرة في التاريخ تعين على اللبنانيين دفع الثمن الباهظ للانسحاب الإسرائيلي بعد الثمن الباهظ للاحتلال!
أما أن يتجاوز الحزب الجغرافيا اللبنانية ويعتدي على السوريين فهذا تنقل عادي، من وجهة نظره، ضمن محور الممانعة القائم على عدم الاعتراف بسيادة الدول، أو بحق الشعوب في تقرير ما تراه مناسباً لها. السوريون واللبنانيون والفلسطينيون لا وجود لهم في قاموس زعيم الحزب الذي يتحدث عن سوريا ولبنان وفلسطين، وهو لا يراهم بأبعد من كونهم أدوات صماء لمشاريع يحملها محوره أو القوى الدولية الأخرى، فالممحاة التي تلغي الحدود والسيادة الوطنية هي نفسها التي تلغي الشعوب؛ تماماً على النحو الذي يفعله الحزب ويتهم به “التكفيريين”.
هذه المعركة التي يحدد الحزب منفرداً أبعادها تجيز له اختراق كافة الحدود، وما يراه الآخرون بمثابة محظورات، وتجيز له أيضاً شن الهجمات الوقائية والاستباقية خارجها، وبذلك يبقى مخلصاً لنشأته التي لم كانت فوق لبنانية، وبذلك أيضاً يبين سطحية محاولات الآخرين للبننته. إن منطق الدولة الذي ردّ به بعض اللبنانيين على الخطاب يتجاهل عدم قابلية الحزب للاندماج في مشروع الدولة، كذلك هي شكوى السوريين من عدوانه إذ لا تأخذ بالحسبان الوحدة العضوية لمشروع يحتل البلدين معاً، ولا يمكن لسقوط النظام في سوريا إلا أن يعني سقوط إمبراطورية الحزب في لبنان. وإنه لتجنٍّ كبير أن تُناقش أخلاقية الدفع باللبنانيين ليتقاتلوا ويُقتلوا في الساحة السورية، فصاحب مقولات “الدم الطاهر” و”المال الطاهر الحلال” لم يكترث يوماً بدماء أقلّ نقاء، بل رأى دائماً أنها تُشترى بالأموال.
لقد دشن حسن نصر الله رسمياً التدخل اللبناني في سوريا، ووصفنا للتدخل بالرسمي ليس اعتباطياً طالما أنه لا قوة لبنانية قادرة على منعه، ولا إرادة فعلية لاستنفار القوى الشعبية اللبنانية من أجل الضغط عليه. حتى يحدث ذلك، سيتسع كرم الضيافة للمزيد من المقاتلين، وسيدفع السوريون ثمن بؤس السياسيين في لبنان.
المدن