صفحات العالم

لبنان: الطوائف – النظام – اللاجئون/ حسام عيتاني

 

يسير لبنان منذ انتقال الثقل السكاني في جبله لمصلحة المسيحيين مطلع القرن التاسع عشر، في لولب صاعد يمثل تطوره السياسي والاجتماعي ويُختصر في متوالية اركانها الصراع الأهلي- الطائفي فاقتتال لتغيير النظام ثم حرب اهلية تأتي بعدها تسوية قلقة تمهد الطريق لصراع أهلي مقبل.

في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ظهّر احتلال ابراهيم باشا التناقض بين الإقطاعية الدرزية والفلاحين الموارنة في الجبل. نهاية الوجود المصري المباشر في 1840 ادت الى فرض نظام القائمقاميتين، المسيحية شمال الجبل والدرزية جنوبه. مجازر 1860 قضت على الترتيب السابق وانتهت بنزول القوات الفرنسية وفرض القوى الكبرى نظام المتصرفية الأشبه بحكم ذاتي للجبل برئاسة مسيحي من الدولة العثمانية غير لبناني. هزيمة السلطنة في الحرب العالمية الأولى اعتبرها مؤرخون كثر تكريساً للانتصار المسيحي الذي وصل الى ذروته في اعلان دولة «لبنان الكبير» في ايلول (سبتمبر) 1920.

الاستقلال بعد ذلك بثلاثة وعشرين عاماً شكّل اختباراً للمرونة والقدرة المسيحيتين على إدارة بلد متعدد يعرفون ضمناً أن أكثريتهم العددية فيه غير أكيدة. الحرب الأهلية في 1958 فرضت شراكة أقوى للمسلمين المسلحين بالنفوذ الناصري. اما اندلاع الحرب الأهلية الأكبر في نيسان (أبريل) 1975 بعد صدامات مع المقاتلين الفلسطينيين لم تتوقف منذ نيسان 1969، فأعلنت نهاية نظام الاستقلال والموقع الممتاز للمسيحيين فيه وصولاً الى خسارتهم ما كان المسلمون واليسار يسمونه «الامتيازات المسيحية» في اتفاق الطائف في 1989.

وبعد حقبة الوصاية السورية التي اختتمت باغتيال رفيق الحريري والخروج المهين للجيش السوري من لبنان، تكشفت أزمة وطنية عامة في العلاقات بين الطوائف وفي النظام السياسي فاقمها وتسبب في احتقانها المديد ادراك الطوائف وجماهيرها للاختلال الكبير في موازين القوة العسكرية والعجز، بالتالي عن الأقدام على محاولة تغيير الموقف السياسي بالعنف المسلح. سياسياً، يرواح لبنان عند هذه النقطة منذ ذلك الحين فيما تتدهور «الدولة» شهراً بعد شهر وتقترب من الاضمحلال.

وشهدت الفترة هذه تحول محور العداء من ماروني – درزي إلى مسلم – مسيحي ليعود اليوم سنياً – شيعياً. يرتبط التبدل في الغالب بثورات صغيرة في المجالات الديموغرافية والاقتصادية – الاجتماعية تستند إلى تطورات في المحيط الخارجي. تزايد أعداد المسيحيين في الجبل بعد هجرتهم من الشمال فتح أمامهم مجالات العمل الزراعي الواسع في وقت كانت السلطنة العثمانية تعيش ازمة اقتصادية وتعتمد اكثر على استثمارات التجار الغربيين الذين استفادوا من حيوية الفلاحين الموارنة في زراعة الحرير، ما افضى الى زيادة ثروة المسيحيين ورفضهم للقيود الإقطاعية القديمة… الخ. قلة العدد والثروة وهما سمتان مشتركان عند كل الطوائف، واستحالة حسم اي صراع في الميدان ثم تثبيت نتائج الانتصار سياسياً، جعلها كلها تبحث عن الدعم الخارجي وترتهن له. ويكاد هذا يكون قانوناً ثابتاً في التاريخ اللبناني. ويرفد هذا القانون الدور الخارجي في وضع التسويات وفرضها بالقوة إن لزم الأمر، مثلما فرض العثمانيون سلامهم بعد 1840 بإعدام الزعماء الدروز ونفيهم، بالتزامن مع تبني مشروع فؤاد افندي القاضي بإنشاء القائمقامية، ثم في سجن قادة المسلحين الدروز في أعقاب 1860. ويكاد يكون هذا حرفياً ما جرى مع ميشال عون الذي رفض اتفاق الطائف فتقدمت القوات السورية في تشرين الأول (اكتوبر) 1990 لطرده، تحت غطاء دولي لم تفت رؤيته إلا على الغافل.

 

الدور الخارجي لم يكن دائماً منوطاً بالدول وسياستها واستراتيجياتها. اللجوء الفلسطيني بعد نكبة 1948، أدخل مئات الآلاف الى لبنان، على شكل كتل بشرية معزولة في مخيمات تمارس عليها أجهزة الأمن اللبنانية أقسى أنواع التسلط الاعتباطي قبل ان يبدأ اللاجئون بإنتاج أُطرهم السياسية التي تلاقت مع الأطر التي كان الفلسطينيون في الخارج يعملون على انشائها والتي اتحدت في منظمة التحرير. وبعد ايلول (سبتمبر) 1970 وحلول قيادة المنظمة في بيروت، بات المعطى الفلسطيني عنصراً داخلياً في السياسات اللبنانية. واقتضى «ضبط» الوجود الفلسطيني وتحجيمه في لبنان حروباً واجتياحات خاضتها اسرائيل وميليشيات لبنانية موزعة على ألوان الطيف الطائفي والجيش السوري وانشقاقات في الفصائل ودماء كثيرة. على نطاق اضيق، يمكن التذكير بهجرة الموارنة من الجبل الى بيروت بعد احداث 1860 وسهولة انقلابها الى الكيان الجديد بعد ان كانت مركز ولاية بيروت العثمانية.

تبخر الدور المباشر للنظام السوري في لبنان بفعل الثورة وتحوله الى ظل لما كان عليه في الماضي، لم يلغ التأثير الكبير لسورية على لبنان. فتدفق اكثر من مليون ونصف مليون مواطن سوري ينشئ من دون ريب حقائق ديموغرافية واقتصادية جديدة. ومن الجلي ان تحوّل هذه الحقائق الى واقع سياسي لن يتأخر وأن اللاجئين السوريين الذين تنتمي اكثريتهم الى طائفة واحدة هم في طريقهم الى صوغ شكل ومضمون سياسيين لوجودهم. والحال ان قسماً من السوريين المقيمين في لبنان اليوم يسعى الى الهجرة نحو اوروبا او اميركا، وأن قسماً آخر ينتظر العودة الى بلاده فور التوصل الى حل سياسي. بيد ان ذلك لا يلغي حقيقة ان الحروب تترك دائماً اعداداً كبيرة من اللاجئين الرافضين للعودة الى بلادهم بعد انتفاء اسباب اللجوء لأسباب متنوعة. وتجربة عودة 1700 لاجئ بعد معركة عرسال ومنع اجهزة نظام الأسد لهم من الدخول، تشير الى طبيعة النظام المعتمد وسائل التطهير العرقي الطائفي من جهة، وإلى تعقيد كل عودة لا تتأسس على اتفاق بين الدولة المضيفة والدولة التي جاء اللاجئون منها.

سيبقى اللاجئون طويلاً في لبنان. هذا واقع رضي اللبنانيون به او رفضوه. وسيطالب السوريون بحقوق بديهية لهم كبشر. وسيكون لوجودهم معنى سياسي وأثر في مستقبل لبنان. اللاجئون هم حاملو الدور السوري في المرحلة المقبلة من الأزمة اللبنانية الدائمة.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى