لبنان.. ملاذ السوريين الأخير/ صادق عبد الرحمن
ليس لبنان بالنسبة للسوريين مجرد بلدٍ مجاورٍ أو بلدٍ شقيقٍ. لا أعني هنا ما يستمر في قوله السياسيون والأيديولوجيون، ولا أعني «وحدة المسار والمصير» على نموذج النظام السوري، ولا أعني التداخل الحدودي والسكاني الذي يترك آثاره على العلاقة بين أي بلدين في العالم، أعني لبنان في الوعي والذاكرة، لبنان الحلم والملاذ والمخيلة.
لا تحتفظ الذاكرة الجمعية السورية، أو ربما ذاكرة أبناء جيلي، بتصورات واضحة عن لبنان ما قبل 1975. لبنان في ذاكرتنا هو فيروز ومقاومة العدو الإسرائيلي وعلاقات أكثر انفتاحاً بين الجنسين، وهو الحرب الطائفية التي تنتهي باتفاق الطائف، والمنطقة التي كان يؤدي كثير من السوريين خدمتهم العسكرية فيها، ومنذ منتصف الثمانينيات يضاف إلى القائمة أن لبنان هو البلد الذي كان يعود منه الجنود والعمال السوريون إلى عائلاتهم في الأرياف وأطراف المدن محمّلين بالموز وأجهزة الفيديو وورق المحارم، يعودون برائحة العالم الحيِّ الذي يتقدم بينما كان السوريون ثابتين في المكان.
ليس الأمر مثيراً للسخرية على الإطلاق. هذه الأشياء ومعها بعض الخبز السياحي، كانت لا تقدر بثمن بالنسبة للسوريين المحاصرين بنظام شمولي ينتهج عسكرة كل شيء في المجتمع، والمحاصرين بإرادة دولية تجعلهم يقفون على طوابير السمن والسكر والشاي طويلاً. كان الموز هدية لبنان لأطفال العمال والجنود السوريين البؤساء.
كان لبنان أيضاً ملجأ للفارين من بطش السلطة، للمثقفين والصحافيين الذين يبحثون عن دور نشر أقل رقابة وعن صحفٍ أكثر تنوعاً، وباستثناء المطرودين من رحمة النظام السوري، كانت سوريا أرض الأمان ولبنان أرض الأحلام والمغامرات بالنسبة لأغلب السوريين. كان لبنان ملاذاً للأحلام وربما معبراً إلى العالم.
ذلك حتى مطلع الألفية الثالثة، حيث بدأ «عصر الانفتاح» في سوريا وتراجعت حاجة الطبقة الوسطى السوريّة لانفتاح لبنان. ثم غادره الجيش السوري وتراجعت نسبة العمالة السوريّة فيه، لكن الأمر لم يدم طويلاً، ولم يكد لبنان يقترب من فقدان أهميته كملاذ للسوريين، ليعود بسرعةٍ وقوةٍ ملاذاَ أخيراً، أخيراً هذه المرة.
منذ أن اشتد الصراع بين النظام السوري ومناوئيه كان لبنان حاضراً في كل تفصيل، حاضراً في علاقة طوائفه وأفرقائه السياسيين بكل ما يدور على الأرض السوريّة، وأخذ يستعيد موقعه في وعي السوريين بوصفه ملاذاً للأحلام الصغيرة والكبيرة، وفوق ذلك ثمة عنصرٌ جديدٌ هذه المرة، لبنان هو الأرض الآمنة التي نهرب إليها من جحيم الحرب، والأرض التي نخشى أن تفقد أمانها.
لبنان هو الأرض الآمنة للمعارضين والناشطين الفارين من خطر التصفية والاعتقال، أو أولئك الفارين بأحلامهم الشخصية بذريعة الفرار من خطر التصفية والاعتقال، وكذلك للكتاب والصحافيين والفنانين السوريين، ومع اشتداد المعارك صار لبنان المفرّ الوحيد لعشرات آلاف السوريين اللاجئين إلى كل مناطق لبنان من أقصاه إلى أقصاه.
وفضلاً عن اللجوء الجماعي أو الفردي هرباً من جحيم الحرب أو خطر الاعتقال، ثمة شريحة أخرى من السوريين يبدو لبنان ملجأها الوحيد: المطلوبون للخدمة العسكرية. عشرات الآلاف تم استدعاؤهم للالتحاق بجبهات القتال إلى جانب قوات النظام السوري، ومن دون حاجةٍ إلى أي تفكير وخلال بضع ساعات يغادر من لا يريد القتال إلى لبنان. هناك في بيروت تبدو أرض الله واسعةً رغم ضيقها على أهلها أنفسهم، تبدو كذلك بالنسبة لشخص كان على موعد مع الموت.
يبدو صعباً تصوّر حياة كثير من السوريين بلا لبنان. ما الذي كانت لتكون عليه خططهم لو أن السفر إلى لبنان يحتاج إلى تأشيرة دخول، أو يحتاج إلى ركوب طائرة، أو يحتاج إلى لغة أخرى غير العربية للعيش والعمل؟ وماذا لو أنه ليس ثمة خيوط تربط كل اللبنانيين، جماعات وأفراد، بكل السوريين جماعات وأفراد؟ أربع صفات جعلت من لبنان ملاذا أخيراً ووحيداً لمئات آلاف السوريين منذ أخذت السفارات والمطارات تغلق أبوابها في وجوههم.
احتمالات الحرب في لبنان تملأ قلوب السوريين بالفزع، حتى أولئك الذين يريدون للحرب أن تستمر حتى انتصار «فريقهم» في سوريا، فإنهم يشعرون بالذعر كلما تم إطلاق الرصاص في طرابلس، أو كلما انفجرت سيارة في بيروت، أو كلما تعالت أصوات العنصريين في لبنان مطالبةً بطرد أو عزل السوريين.
لا مجال اليوم بالنسبة للسوريين للتفريط بلبنان، ويبدو أنه لا خيار أمام اللبنانيين في ما يتعلق باحتضان السوريين. ثمة بلدان متشابكان في كلّ شيء، ومتداخلان في كلّ شيء، وسيعني إغلاق أبواب لبنان في وجوه السوريين كارثةً ستطال لبنان نفسه، وسيعني عبث السوريين بأمن لبنان كارثة ستطال السوريين واللبنانيين على حد سواء. وبانتظار أن تنتهي هذه الحرب سيبقى لبنان ملاذ السوريين الأخير.
وهذا ليس خيار أحد.. هذه حقيقةٌ فحسب.
(دمشق)
السفير