صفحات العالم

لبنان وسوريا: تشابك التغيير


رشيد شقير

الكثير من “النقاشات” الدائرة على صفحات “الفايسبوك” وغيرها يعكس العشوائية في النظر إلى الوقائع والأحداث، والإنتقائية التي تختار أجزاء من الواقع وتهمل أجزاءه الأخرى، وإطلاق الأحكام المتسرعة عليه: هذه أدوات عمل تُحدِث خللاً في وعي الواقع، وإرباكاً في الحكم عليه، وترنّحاً في تحديد الخيارات المستقبلية… ما يشير في أحيان كثيرة إلى عقلية استبدادية.

إن النقاش في أمر ما أشبه ببحث في وقائع نافرة، بحيث تتشابك عناصرها مولّدة الحدث أو الأحداث… انه يتابع الأحداث الماثلة أمامنا محاولاً إكتشاف ميولها واحتمالات نهاياتها. الغاية من البحث إذن هي إدراك الواقع كما هو بغض النظر عن مشاعرنا وإنفعالاتنا. وحين نناقش موضوع الثورات العربية يُفترَض أن نأخذ في الإعتبار الخلفية المشتركة التي تحكم قراءاتنا وأحكامنا، وهي الخلفية الديموقراطية وما يتصل بها من حقوق، والتي تشكل المعيار المحوري للحكم على تلك الثورات ومآلها. وتالياً، فإن أحكامنا على هذا الواقع لا بد أن تُبنى على معايير محددة: الحقوق الإنسانية.

دعونا إذن لا نتعاطَ مع الأحداث من خلال شعارات وعواطف، فالجملة الشعارية لاتختصر الواقع الذي يتطلب تحليلاً معمقاً وعقلانياً، وإنما تعبر عن أهواء وإنفعالات لا تغير من الواقع في شيء… الديموقراطي يقول: السلطة أخطأت، وبإعترافها، إذن عليها أن تتحمل مسؤولية أخطائها، وعلى الشعب، ومن حقه أن يحاسبها… لكن هذا الديموقراطي نفسه يهجر هويته حين يبرر سياسة الاستبداد ونظامه، أوحين يكون معارضاً له ومساوماً معه في الوقت نفسه، بما في ذلك تأثره بالفعل ورد الفعل الطائفيين، حيث ينقسم “الديموقراطيون” في لبنان وسوريا إلى موالين ومعارضين لنظام الاستبداد خارجاً عن المعايير الحقوقية، فيقفز هذا إلى التمسك بمساندة الحلف الخارجي الداعم للنظام للتغلب على “المؤامرة” التي تستهدفه، ويتوخى ذاك تدخل الحلف الخارجي المقابل لإنقاذه من وحشية قمع النظام نفسه.

وتالياً يتعمق الإنقسام الموتور الذي تتفاقم فيه الإعتبارات الطائفية المتشابكة مع مواقع سلطوية، في لبنان كما في سوريا، ناقلة الصراع إلى مستويات أكثر نارية ومأسوية. إذ يخشى الممانعون (قوى 8 آذار) أن يؤدي سقوط النظام السوري (نظرياً) إلى تحكُّم السياسة الأميركية – الإسرائيلية بمصير الصراع العربي الصهيوني، بما في ذلك القضاء على المقاومة، وتالياً إنقلاب السلطة في لبنان لمصلحة قوى 14 آذار التي تعلن دعمها الثورة في سوريا للتخلص من النظام المتحالف مع إيران، في الوقت الذي تتمسك ب”الشرعية” الدولية والعربية في التعاطي مع الوضعين اللبناني والسوري.

لا شك في شرعية الاحتجاج الطائفي على أوضاع طائفية غير عادلة في توزيع السلطة وممارستها، لكنه لا يحل مشكلة الإنقسام والتوتر الطائفيين، ولا يتجاوز الطائفية ما لم يتوخَّ الديموقراطية فكراً وتنظيماً وممارسة وتضامناً (فعلياً في مواجهة نظام الاستبداد). وإلا، فإن هذه المشكلة ستبقى كما كانت منفذاً رحباً للتدخلات الخارجية بما يتفق ومصالح الدول المتدخلة أساساً، وليس إنقاذاً لوضع هذا الطرف المحلي أو ذاك. إذن حتى لو أفلحت التدخلات الخارجية في إنقاذ النظام أو معارضيه، فالإنتقال من سيطرة طائفية إلى أخرى لن يقضي على نظام الاستبداد، وإنما سيبدل رداءه، وهذه دوّامة لبنانية ينبغي أن لا يتمناها السوريون لأنفسهم في سياق إنكبابهم على معالجة قضاياهم الداخلية الغالبة في اهتماماتهم الثورية.

لكن ما لم يصطف الديموقراطيون في تماسك متين، وحول خطة عمل مدروسة مبنية على موازين قوى محلية وإدراك البعد العربي والإقليمي والدولي للتغيير في سوريا، فإن المناخ الطائفي الموتور (السني- الشيعي بالتحديد) الذي يخيم على المنطقة في ظل تغلغل النفوذ الدولي فيها يحمل مخاطر إنشطارها في الأفق المنظور. لذا، فإن غلبة الاتجاه الديموقراطي في العملية السياسية السورية يشكل إمكاناً مهماً لتجاوز هذه المخاطر، بما فيها ضمان سياسة خارجية لا تخون “الممانعة”: إن النظام الديموقراطي الذي يُتوقع بناؤه بديلاً من نظام الاستبداد يحترم، نظرياً على الأقل إرادة الشعب في السيادة على الدولة والأرض، فلا بد له أن ينصرف إلى تحرير الأرض المحتلة (الجولان) التي عجز نظام الاستبداد عن استرجاعها بوسيلة السياسة “السلموية” (المفاوضات) المترافقة مع دعم المقاومة في لبنان وفلسطين… وهذا ما يضع الديموقراطيين السوريين أمام تحدي تقويم الدور العربي الريادي لبلدهم: سياسة دفاعية سورية- عربية قادرة على حسم الصراع مع الكيان الصهيوني واستعادة الحقوق العربية…إن الحالة المصرية لما بعد الثورة (خصوصاً) تحمل تباشير لافتة في هذا الاتجاه.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى