لبنان وسوريا: معنى آخر لما يسمّى “الاشتراك في المصير”
يوسف بزي
فيما كان المتظاهرون السوريون يتحدّون بصدورهم العارية رصاص رجال الأمن و”الشبيحة”، كانوا أيضاً يطلقون اللعنات على إيران والخامنئي. ويعمدون أمام كاميراتهم المرتجفة الى إحراق راية حزب الله. ومع أن السوريين لا ينتفضون على سلطة ولاية الفقيه (كما فعل شبان “الثورة الخضراء”) ولا على هيمنة حزب الله (كما تسعى “14 آذار”)، بل ينتفضون على النظام البعثي (العلماني؟) الذي يحكمهم منذ العام 1963، فهم مع ذلك يرون في إيران وحزب الله ضلعَيّ مثلث النظام السوري “الممانع”.
وتتأكد صحة هذه الرؤية عندما يحتشد الموالون للسلطة السورية في الميادين الواسعة، مطمئنين الى أمنهم وسلامتهم من غير خوف، مطلقين صيحات التأييد لرئيسهم، رافعين بكثافة الأعلام السورية التي باتت، في بدعة جديدة، تتوسطها صورة بشار الأسد، ما يذكرنا ببدعة أكثر ذكاء لجأ إليها صدام حسين إبان حرب الخليج الأولى حين أضاف، بخط يده، كلمة “الله أكبر” على العلم العراقي. لكن بالطبع كان اللافت في تظاهرات الموالين ليس هذه البدعة فحسب، بل ذاك الحضور الكثيف أيضاً لرايات حزب الله المرفوعة جنباً الى جنب مع علم الدولة السورية البعثية.
ونزاع السوريين بين رفع راية حزب الله أو إحراقها، هو في صلب الصدام بين الموالين للنظام، المتمسكين بعلم الدولة البعثي، والمعارضين له، الذين يعتمدون علم سوريا بعد الاستقلال. وأبعد من ذلك، النزاع السوري ليس قائماً فقط على تأييد الحزب الحاكم أو معارضته، بل إن الموقف من حزب الله أصبح ركيزة أساسية من ركائز الانقسام السوري.
ومصدر كراهية حزب الله وإيران لدى المنتفضين السوريين، هو هذا الحدس الذي يملكه المواطنون السوريون من أن حزب البعث ما عاد حزباً حقيقياً ولا قوة متماسكة فعلية منذ أن اختزله الأسد الأب في شخصه وأقاربه ومريديه وأجهزته المخابراتية، ليتفاقم هذا الاختزال حين “ورث” الأسد الإبن الرئاسة في عجالة دستورية، ليبدو حزب البعث وكأنه خال من أي قادة أو مؤهلين للرئاسة. وعليه، يحدس المواطنون السوريون بأن نظامهم ضعيف ولا يملك من أسباب القوة والاستمرارية، بعد فقدانه للشرعية، إلا دعم إيران المالي واللوجستي من جهة، ودعم حزب الله الإعلامي والسياسي و”أشياء أخرى”، من جهة ثانية، أي أن ما يحول بين الثورة السورية وبلوغ هدفها المتمثل بإطاحة النظام هو هذا الدعم الثنائي، والذي يحدس السوريون أيضاً بأنه قد يصل الى حد ذهاب رجال حزب الله من الحدود اللبنانية الإسرائيلية الى قلب دمشق، إن اضطر الأمر. فسياسة “الدفاع عن السلاح بالسلاح” التي أطلقها في شوارع بيروت في 7 أيار 2008، قد تصبح سياسة “الدفاع عن الحلف بالسلاح” بشوارع دمشق 2011، إن لزم الأمر.
إن المعارضين والموالين السوريين يدركون معاً أن حزب الله هو “الاحتياط الاستراتيجي” للنظام، فيما يدرك الحزب أن إطاحة النظام السوري قد يضع رأس الحزب تحت المقصلة. وهذا الترابط المصيري بين حزب الله (اللبناني!) والنظام البعثي (السوري) يجعل من المقولة الزاجرة: “على اللبنانيين عدم التدخل في الشأن السوري” إحدى أكثر المقولات سذاجة وتضليلاً. فإذا كان السوريون يعبرون عن نقمتهم على النظام بإحراق راية حزب الله، وإذا كان النظام نفسه لا يعرف أن يقيم “احتفالية الجلوس على العرش” إلا بمغنين لبنانيين، ولا يستضيف تلفزيونه سوى الأبواق اللبنانية، وإذا كانت الروايات الرسمية تفسّر ما يحدث في سوريا بأنه مؤامرة مستمرة منذ “الانتفاضة” اللبنانية عام 2005، مع ما استتبعها من خسارة بشار الأسد ما أسماه الكاتب السوري ياسين الحاج صالح “الفردوس اللبناني الضائع”، فظهر الأسد وكأنه لم يحفظ ملكاً ورثه عن الأب، فاستعاض عنه ببندقية حسن نصرالله مهداة الى الضابط رستم غزالي، “المنسحب” من ريف البقاع اللبناني الى ريف دمشق. هذا كله (وفي طياته 30 عاماً من الاحتلال والوصاية) يحيل مقولة “عدم التدخل” الى هرطقة يراد منها أن “لبنان حزب الله” وحده المتاح له التدخل الى حدّ الشراكة في الشأن السوري.
وعلى منوال المعارضين والموالين في سوريا وانقسامهم الحاد تجاه حزب الله، فإن اللبنانيين أنفسهم منقسمون بشدة حيال حزب الله وسلاحه، بل إن الحياة السياسية ونزاعاتها تكاد تكون قائمة على بند واحد: “سلاح حزب الله”، الذي يملك قوة فوق دستورية، وفوق ميثاقية، وتطيح شرط الديموقراطية متى شاءت، وتهيمن على الدولة وأجهزتها، وتقيم شبه دويلة أهلية ـ مذهبية.
وعلى مثال “المصيبة تجمع”، فإن “الأمل” أيضاً يجمع السوريين واللبنانيين، فالنظام نفسه هو الذي واجه عام 2005 “ربيع دمشق” و”ربيع بيروت” في آن معاً.
وإذا كانت الآلة الأمنية الاستخباراتية السورية هي التي تولت إطاحة “ربيع دمشق” فإن بقايا الجهاز الأمني المشترك (السوري اللبناني) وحزب الله (ومعه الأحزاب اللبنانية السورية المشتركة: البعث، القومي..) تولوا من ناحيتهم إطلاق الثورة المضادة للقضاء على “ربيع بيروت”. النظام السوري وحزب الله أدركا ذاك الترابط بين “ربيع دمشق” و”ربيع بيروت” أكثر بكثير مما أدركته حركة 14 آذار اللبنانية مثلاً، التي نظرت الى هذا الترابط وكأنه “مشهد حلمي ورومانسي”.
خسر النظام السوري “مناعته” عندما اضطر الى الانسحاب من لبنان، وقد يخسر حزب الله “ممانعته” إذا سقط بشار الأسد. وهذا على الأقل، ما يضع لبنان في قلب الصراع على سوريا الآن، حتى لو لم يرد ذلك لا المنتفضون السوريون ولا الـ”14 آذاريون” اللبنانيون. وأبعد من ذلك، وبغض النظر عما يطمح إليه ثوار سوريا لبلدهم، فهم أيضاً متصادمون مع النظام في “أي لبنان يريده السوريون؟”: “المقاوم” والوكيل الحربي و”الساحة” المفتوحة ومجال الهيمنة التي تربّي العنصرية والكراهية، أم لبنان النموذج الديموقراطي، ومظاهر الانفتاح، وإنتاج المعرفة، ومواكبة الحداثة، والإعلام الحر؟ أهو لبنان “الوطن النهائي” مثلما سوريا “الوطن النهائي” من أجل شراكة في نهوض مشرق عربي معافى ومزدهر، أم لبنان “الورقة” كما الجولان “الورقة”؟ ذاك ما يحضر في نفوس السوريين في اللحظة عينها التي يحلمون فيها بإسقاط نظامهم.
على هذا كله فإن الشعار الذي ترفعه قوى 14 آذار “مواجهة سلاح حزب الله” لن يستقيم إلا بشعار آخر ترفعه 14 آذار “نحن جزء من معركة إسقاط النظام السوري”.
المستقبل