لبنان وقطع الامتداد السوري
حسان حيدر
كانت المشكلة الأساسية في العالم العربي منذ سبعينات القرن الماضي، أن أنظمته الانقلابية لم تكتف بتطويع الداخل قسراً ورسم سقف منخفض لأي نشاط سياسي أو فكري بحيث لا يتجاوز الحزب أو الفئة الحاكمة، بل تعدت واقعها دوماً إلى الخارج ورسمت لنفسها أدواراً إقليمية مبالغاً فيها لتعويض الانسداد الداخلي. لكن ثورات الربيع العربي جعلت معظم هذه الدول منشغلاً بحاله، بعدما أظهرت فداحة الهموم والمشكلات الداخلية، وجعلت إعادة البناء والهيكلة أكثر إلحاحاً من أن تسمح للأنظمة الجديدة بالوقوع في إغراء اللجوء مجدداً إلى لعبة الخارج. فالثورات قامت أصلاً لإنهاء هذا التهرب من البحث عن حلول للأوضاع المعيشية الصعبة والعلاقات غير السوية بين مكونات كل مجتمع.
تبنت ليبيا – القذافي هذه المعادلة، لكن التوصيف ينطبق على سورية اكثر من غيرها. فبعدما أغرقت مصر نفسها في عزلة نسبية منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد مع إسرائيل، وجدت دمشق في ذلك فرصة سانحة للالتفاف على مأزقها السياسي والاقتصادي بتوسيع تدخلها الخارجي وتعزيزه في الساحتين الأكثر هشاشة والأكثر اضطراباً: لبنان وفلسطين. ولا يزال النظام السوري الذي يواجه منذ بداية العام الماضي انتفاضة شعبية تحولت مسلحة، وانقساماً أهلياً حاداً، يقاوم بضراوة المصير المحتوم لامتداداته الخارجية.
وفي المقابل، أتاح «الربيع العربي» للأطراف التي كانت موضوع التدخلات واختلال موازين الجيرة، أن تتخفف من وطأتها شيئاً فشيئاً. فبعدما تغلبت حركة «حماس» على حرجها وخرجت من تحت العباءة السورية، جاءت الاشتباكات بين المسلحين الفلسطينيين المؤيدين للانتفاضة ومقاتلي «القيادة العامة» في مخيم اليرموك بضاحية دمشق لتؤشر إلى محاولة استكمال الخروج الفلسطيني أو وقفه عند حدوده الحالية.
وتندرج في الإطار نفسه الاشتباكات في حلب بين «الجيش السوري الحر» وميليشيا «حزب العمال الكردستاني» التي طالما استخدمها النظام لتطويع الأكراد انفسهم ولابتزاز تركيا، بعدما اضطر إلى منح أكراد الشمال شبه «حكم ذاتي» بسبب حاجته إلى قواته المرابطة هناك.
لكن العامل الأهم في إنهاء مرحلة الامتداد الخارجي السوري يبقى لبنان، الذي باتت قياداته السياسية اكثر جرأة في التعبير عن نفسها، بسبب قناعة عامة بأن التغيير في سورية قادم لا محالة حتى لو طال الوقت قليلاً. غير ان الحكم السوري الذي يعتبر جاره الصغير مقياساً رئيسياً لنفوذه ووسيلة الضغط المفضلة لديه في مخاطبة العالم، يستشرس في المحافظة على موقعه ونفوذه فيه، ولا يتورع عن توجيه ضربات مؤلمة، على غرار اغتيال اللواء وسام الحسن الذي وقف في وجه سطوته، ولا يتردد في تهديد سائر معارضيه بالمصير نفسه.
وفي المقابل، تتخذ المعارضة اللبنانية مواقف أكثر جذرية في مواجهة نظام دمشق وحلفائه الداخليين، عبر إصرارها على إقالة حكومة ميقاتي المستندة إلى تفاهم سوري-ايراني برعاية «حزب الله»، وتأكيدها أنها لن تسكت بعد اليوم على استمرار دمشق في استباحتها السياسية والأمنية بتغطية من حلفائها، بعدما أسقط اغتيال الحسن اتفاق الدوحة نهائياً. ولهذا تندرج معركة المعارضة لوضع حد للامتداد السوري في لبنان في إطار النتائج المنطقية للانتفاضة السورية ولـ «الربيع العربي»، وتستدعي كل مساندة عربية ودولية.
سيكون هناك بالطبع ثمن لهذا الموقف قد تدفعه المعارضة من دمها، وربما من وحدتها، لكن قادتها يعتبرون أنهم يدفعون على أي حال مجاناً ثمن دخول نظام دمشق النزع الأخير.
الحياة