لتحذر دمشق, فالمالكي على خطى أردوغان
نقولا ناصر
(موقف نوري المالكي الحالي يمثل قنبلة عراقية موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه دمشق في أية لحظة, كما انفجرت قنبلة اردوغان)
كل الأدلة والدلائل والمؤشرات تستبعد تماما أن ينقلب نوري المالكي, رئيس وزراء الحكومة العراقية المنبثقة عن عملية سياسية رسمها الاحتلال الامريكي للعراق بعد الغزو, وكتب دستورها وقوانينها, على هذه العملية بين ليلة وضحاها, ليتحول مع الأركان الطائفية مزدوجة الولاءات الامريكية – الايرانية لهذه العملية الى قوة حريصة على بقاء سورية حصنا ل¯”المقاومة والممانعة” في مواجهة الولايات المتحدة وحليفها الاقليمي الاستراتيجي الاسرائيلي وقد عاد لتوه من واشنطن غداة الاتفاق على تفاصيل ربط بغداد بقيود “شراكة استراتيجية” طويلة المدى معها تكون بديلا لتواجد قوات الاحتلال الامريكي النظامية بعد انسحابها من العراق آخر هذا العام.
فتجربة سورية المرة مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ما زالت تتفاعل لتؤكد بأن الشركاء الصغار للولايات المتحدة في علاقات استراتيجية معها سوف يظلوا عاجزين عن إقامة علاقات تكتيكية تقتضيها مصالح بلادهم الوطنية إذا تعارضت هذه المصالح مع مصالح الشريك الامريكي الأكبر. لذلك لن يستطيع رئيس وزراء حملته دبابات الغزو الامريكي الى السلطة في بلد لم تغادره قوات الاحتلال الأجنبي نهائيا بعد, مثل المالكي, تحقيق ما عجز عن تحقيقه رئيس وزراء منتخب في دولة مستقلة, مثل أردوغان.
وبالتالي لن يكون مصير المراهنة السورية على مراكمة علاقات تكتيكية مع عراق يقوده المالكي وأركان العملية السياسية الامريكية التي أوصلتهم إلى السلطة على أمل إحداث تغيير في علاقتهم الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أفضل من مصير المراهنة السورية المماثلة على أردوغان وتركيا, ولن يطول الوقت الذي يجد فيه المالكي نفسه أمام اختبار امريكي يخيره بين انفتاحه التكتيكي على دمشق وبين القيود الاستراتيجية التي تربط مصيره وبقاءه السياسي بمدى إذعانه لإملااءات علاقاته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة, ومن المؤكد أن المالكي أقل تأهيلا من أردوغان للنجاح في اختبار كهذا فشل فيه نظيره التركي الأفضل تأهيلا منه. لذا فإن موقف نوري المالكي الحالي يمثل قنبلة عراقية موقوتة يمكن أن تنفجر في وجه دمشق في أية لحظة, كما انفجرت قنبلة اردوغان.
وإذا كانت استحقاقات الواقع التي تفرض على الدبلوماسية السورية تجاهل علاقات المالكي الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وإغماض الأعين عن التناقض بين هذه العلاقات وبين أي موقف للمالكي يمكن أن يحوله حقا إلى ظهير “مضمون” لسورية, لا ينقلب عليها كما انقلب أردوغان, في المواجهة الامريكية – السورية المحتدمة حاليا هي استحقاقات مفهومة وواضحة, فإن أسباب المالكي لتظاهر العراق بالحرص على عدم “إسقاط النظام” في سورية ليست مفهومة وواضحة بالقدر الكافي ذاته, لكن ليس من الصعب استقراؤها.
وأول هذه الأسباب التي تتبادر إلى الذهن يكشفها تصريح المالكي وهو في طريق عودته من زيارته الأخيرة إلى واشنطن عن عزمه إرسال وفد إلى دمشق للتوسط بين الحكم وبين المعارضة, بينما كل الأنظار العراقية والعربية مركزة على معرفة مضمون ما يصفه الرئيس الامريكي باراك أوباما وإدارته ب¯”الشراكة الاستراتيجية” الامريكية – العراقية طويلة المدى التي استدعي المالكي إلى واشنطن للاتفاق على تفاصيلها عشية استكمال انسحاب قوات الاحتلال الامريكي من العراق بنهاية الشهر الجاري, فالمالكي حريص على التعتيم على تفاصيل هذه الشراكة بقدر حرصه على ترسيخها.
إن عدم اعتراض الإدارة الامريكية على الاختلاف بينها وبين حكومة المالكي في الموقف من سورية يشي بحرص الجانبين على ترويج صورة مضللة بان قوات الاحتلال الامريكي تترك العراق وهو “مستقل وحر وذو سيادة” كما قال وزير الدفاع الامريكي ليون بانيتا وهو يرعى احتفال رفع العلم العراقي وإنزال العلم الامريكي في بغداد يوم الخميس الماضي.
وثاني هذه الأسباب يتلخص في ما وصفه المحلل السياسي العراقي وليد الزبيدي في مقال له مؤخرا ب¯”هيمنة إيران على جميع المفاصل السياسية والأمنية والاقتصادية” في العراق, مما يفسر موقف المالكي وحكومته من الأزمة السورية الراهنة باعتباره قرارا إيرانيا في المقام الأول أكثر مما هو قرار أملته عوامل الجغرافيا السياسية والعلاقات الاقتصادية الوثيقة بين العراق وبين سورية رغم أهميتها, فمثل هذه العوامل والعلاقات لم تكن رادعا كافيا للحيلولة دون تركيا أردوغان والإذعان لاستحقاقات العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة للانقلاب على علاقاتها السورية. والمالكي حريص على التعتيم على هذه “الهيمنة الايرانية” بقدر حرصه على ترسيخها.
وثالث الأسباب يكشفه ما نسبته الصحافة الامريكية إلى المالكي أثناء وعشية زيارته الأخيرة لواشنطن, فهو ما زال يسعى إلى “تفكيك وتسليم” المجموعات “البعثية العراقية” التي تقود المقاومة العراقية والتي تستضيفها سورية, والتي قاد رفض دمشق لتسليمها الى أزمة دبلوماسية بين البلدين عام ,2009 مما لا يترك مجالا للشك في ان المالكي يستغل الأوضاع الصعبة في سورية لابتزازها كي تنهي التسهيلات السورية لهذه المقاومة باعتبارها الخطر الأكبر على استمرارية النظام السياسي المنبثق عن الاحتلال الامريكي في العراق, وقد دلل المالكي على استشعاره لهذا الخطر بحملة الاعتقالات الواسعة للبعثيين العراقييين خلال الأشهر السابقة على استكمال الانسحاب العسكري الامريكي, والتي قالت هيئة علماء المسلمين في العراق إن العنوان “البعثي” لتلك الاعتقالات لم يستطع إخفاء حقيقة انها طالت كل القوى الوطنية المقاومة للاحتلال الامريكي والهيمنة الايرانية. والمالكي حريص على التعتيم على حملته الشرسة ضد المقاومة العراقية بقدر حرصه على اجتثاثها باسم “اجتثاث” البعث.
وهذا يقود الى السبب الرابع, وهو التعتيم على واقع ما وصفه الشيخ حارث الضاري, رئيس هيئة علماء المسلمين, ب¯”سلطة استبدادية واستئصالية حاقدة على أبناء الشعب العراقي”, تستدعي “ثورة ربيع عربي” في العراق ضد أسباب مضاعفة للثورة, بالمقارنة مع الأقطار العربية التي يجتاحها حاليا حراك شعبي واسع ضد الاستبداد, لأن أدوات الاستبداد في العراق ليست “وطنية” فحسب بل هي مدعومة بتوطين خبرات أجنبية في مصادرة الحريات العامة كشرط مسبق لاستمرار الاحتلال الامريكي والهيمنة الايرانية, والمالكي حريص على التعتيم على أسباب “الثورة” في العراق بقدر حرصه على اجتثاث الحراك الشعبي العراقي من اجل التحرر والسيادة والحرية والوحدة الوطنية.
وخامس الأسباب أن “الوساطة” العراقية التي يريدها المالكي في سورية توحي خادعة بعودة دور “عربي” للعراق تمهيدا لاستضافة بغداد المقررة للقمة العربية بنهاية آذار / مارس المقبل, فالمالكي حريص على استضافة هذه القمة بقدر حرص الولايات المتحدة على انعقادها في العاصمة العراقية لانتزاع اعتراف عربي جماعي بشرعية النظام المنبثق عن الغزو والاحتلال الامريكي للعراق. وفي هذا السياق يلفت النظر أن “الوساطة” العراقية المقترحة هي وساطة بين جامعة الدول العربية وبين سورية أكثر مما هي وساطة بين الحكم في دمشق وبين المعارضة له, وأنها تتم ب¯ “التفويض الكامل من قبل الجامعة العربية” كما قالت صحيفة “الصباح” العراقية الرسمية, خصوصا وأن المالكي مؤهل فقط للوساطة فقط مع “المعارضة” السورية التي تطالب بالتدخل العسكري الأجنبي, كونه كان سباقا ورائدا في هذا المضمار, لكنه بالتأكيد لا يملك أي أرضية مشتركة تؤهله للتوسط مع المعارضة الوطنية التي تكرر رفضها المطلق لمثل هذا التدخل وتعتبر المالكي نفسه ونظامه من إفرازات التدخل الأجنبي والاحتلال.
وسادس الأسباب “تركي”: فقوة الاحتلال الامريكية عشية سحب قواتها النظامية لم تترك مجالا للشك في سعيها إلى موازنة “الهيمنة” الايرانية التي ترسخت في العراق تحت المظلة الامريكية بدور تركي يتعزز بعد الانسحاب الامريكي العسكري. فليون بانيتا توجه من بغداد مباشرة بعد إنزاله العلم الامريكي إلى انقرة, حيث “من المتوقع أن يكون العراق موضوعا رئيسيا على جدول أعماله” كما كتب ممتازر توركون في صحيفة “زمان” التركية يوم الجمعة الماضي, ليصرح بأن تركيا “شريك حاسم للولايات المتحدة وحليف مهم لحلف الناتو”. واللافت للنظر أن الناتو قد أعلن في بيان رسمي يوم الاثنين الماضي أنه سينهي مهمة بعثته العسكرية للتدريب في بغداد, وتركيا مشاركة في هذه البعثة, بالتزامن مع اكتمال انسحاب القوات الامريكية في نهاية الشهر الجاري, وإشارة بانيتا إلى أهمية تركيا للحلف تقترح بان يشمل الدور التركي بعد الانسحاب الامريكي وراثة الدور الامريكي ووراثة دور حلف الناتو على حد سواء في العراق. ومثل بانيتا, توجه نائب الرئيس الامريكي جو بايدن من بغداد إلى أنقرة مباشرة بعد زيارته التي لم يعلن عنها مسبقا للعاصمة العراقية أوائل الشهر الجاري. فواشنطن تسعى علنا إلى أن تكون تركيا كاسحة ألغام امريكية في سورية والعراق على حد سواء.
وكان المالكي, في مقابلة مع الوول ستريت جورنال الامريكية سبقت زيارته الأخيرة لواشنطن قد اشتكى من “تدخل” أنقرة في “الشؤون الداخلية” للعراق. ومن الواضح أن عاملين مهمين يجعلان المالكي وأركان عمليته السياسية متحفظين بقوة على هذه “الدور التركي” الذي تريده الولايات المتحدة في العراق بعد سحب قواتها, أولهما “الهيمنة” الايرانية وثانيهما العامل الكردي, مما يجعل أهم مكونين في “العملية السياسية” معارضين للدور التركي المقترح, سواء في سورية أم في العراق, لأسباب إيرانية وعراقية لا علاقة لها بأي انحياز عراقي موهوم لسورية في مواجهة المسعى الامريكي الحثيث ل¯”إسقاط النظام” السوري.
في مقاله المشار إليه أعلاه, كتب ممتازر توركون في صحيفة “زمان” التركية: “لقد انسحبت الولايات المتحدة من العراق. من سيملأ الفراغ الذي فشلت الولايات المتحدة في ملئه? طبعا سوف تكون تركيا. سوف تهل حقبة جديدة تملأ فيها تركيا هذا الفراغ في القوة لتحفظ السلام والتوازن في العراق.”!
والسبب السابع هو تبجح الاحتلال الامريكي ثم تبجح النظام المنبثق عنه في المنطقة “السوداء” ببغداد بأن “الديمقراطية” التي جاء بها “التحرير” الامريكي للعراق قد خطط لها لتعم المنطقة كنموذج يحتذى, لا بل إن بعض أركان هذه “الديمقراطية” الامريكية في العراق لم يتورع عن الادعاء بفضلها في انفجار “الربيع العربي”. ومنذ أيام الغزو الامريكي الأولى لم يخف الغزاة أن بغداد في خططهم كانت مجرد محطة أولى تليها دمشق وطهران في الطريق إلى شرق أوسط “جديد” ينعم بالديموقراطية وحقوق الانسان على “الطريقة الامريكية”. لذا من الطبيعي أن يتريث المراقب وهو يستمع إلى المالكي يعرب عن خشيته من بديل تغيير النظام الحالي في سورية, فلا بد أن يكون وراء الأكمة ما وراءها.
لهذه الأسباب وغيرها على دمشق أن تحذر, فالمالكي يسير على خطى أردوغان. وتظل المقاومة العراقية هي الرصيد المضمون الوحيد لسورية وليس النظام الذي يستهدف رأسها ويدعي الوقوف الى جانب سورية وظهره مستند إلى الولايات المتحدة التي تعلن جهارا نهارا مطالبتها برأس دمشق. ويجب أن تكون تجربة استثمارها في المقاومة اللبنانية والفلسطينية هاديا لها في العراق أيضا. فحرب المقاومة في العراق لم تنته بعد, وإن كانت قد طوت صفحة إنجاز فاصلة.
في أوائل كانون الأول الجاري, أعلن مشعان الجبوري ثلاثة أسباب لإغلاق قناة “الرأي” الفضائية التي كانت تتخذ من دمشق مقرا لها, أولها أن قوات الاحتلال الامريكي سوف تكمل انسحابها من العراق بنهاية الشهر, وثانيها أنه يجب إنهاء المقاومة العراقية نتيجة لذلك, وثالثها “التطور الايجابي” في العلاقات العراقية السورية. وبغض النظر عما إذا كانت هذه هي الأسباب الحقيقية فعلا, فإن في إيراد هذه الأسباب تضليل كبير, فوجود القوات الامريكية ليس هو المظهر الوحيد للاحتلال الامريكي, و”التطور الايجابي” في العلاقات العراقية السورية يمكن في اية لحظة ان يتمخض عن انقلاب عراقي لا يقل غدرا عن انقلاب أردوغان على تطور مماثل في العلاقات التركية السورية, وإنهاء المقاومة العراقية مرهون بانهاء كل مظاهر الاحتلال الامريكي وكل ما تمخض عنه وليس بإنهاء مظهره العسكري فقط, والنظام الذي يقوده المالكي الآن وقد يقوده غيره بعده هو أهم ما تمخض عنه.
وما زال هذا النظام يحتفظ بأرصدة ضخمة للاحتلال الامريكي تحرص على استمراره. فالسفارة الامريكية الأضخم في العالم هي حسب وصف الاعلام الامريكي “قاعدة عسكرية” بكل المقاييس, وكذلك القنصليات الامريكية في شمال العراق وجنوبه. وهذه القاعدة محمية بحوالي سبعة عشر ألف عسكري امريكي, وعشرات الآلاف من “المتعاقدين الأمنيين” المرتزقة من الامريكيين وغيرهم المجهزين تماما بأسلحة ثقيلة منها مروحيات حربية ومدرعات لتنفيذ مهمات تقوم بها الجيوش النظامية بموجب “عقود” مبرمة مع وزارتي الدفاع والخارجية الامريكية ضمن استراتيجية “خصخصة” الحرب.
بعد أن زار المعلق الامريكي تد كوبل العراق مؤخرا في مهمة إعلامية استنتج بأن الولايات المتحدة “لا تغادر العراق” فعلا, وافترض استمرار وجود “بعثة لوكالة المخابرات المركزية (سي ىي ايه) بصحة جيدة”, والقيادة المشتركة للعمليات الخاصة “جيه اس أو سي”, ووكالة التحقيقات الفدرالية “اف بي آي”, ووكالة مكافحة المخدرات “دي إي ايه”, الخ. ناهيك طبعا عن الاحتكارت النفطية العالمية, أما الوكالة الامريكية للتعاون الدفاعي الأمني فتوقعت أن يستمر تواجد الخبراء العسكريين والفنيين الأميركان العاملين في “الدعم وإدارة البرامج والتدريب” لخدمة الأسلحة الامريكية التي طلب العراق شراءها من الولايات المتحدة لفترة “تزيد على 15 عاما” (يونايتدبرس انترناشونال في 14/12/2011). ومن الواضح أن مشعان الجبوري كان متسرعا عندما قال إنه “يجب إنهاء المقاومة العراقية”, فأسباب استمرار المقاومة ما زالت كثيرة.0
العرب اليوم