لحظة سورية كاشفة
عيسى الشعيبي
على مدى نحو تسعة أسابيع مضت على انطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية السورية، كان يساورني كل يوم جمعة قسط غير قليل من الشك حول ما إذا كانت المسيرات الجماهيرية المتحدية لبطش أشرس الأجهزة البوليسية في العالم، وأكثرها تغولاً، قادرة على أن تجدد نفسها بنفسها، وأن يتمكن الشباب والنساء في البلد المحكوم بالخوف والصمت من معاودة الخروج إلى الشارع بعد صلاة يوم جمعة جديدة، لا سيما وأن الثمن الذي كانوا يدفعونه في كل مرة أكثر فداحة مما كان يتكبده المصريون والتونسيون من قبل.
غير أن بسالة السوريين منقطعة النظير، وجسارتهم التي تجل عن كل وصف أمام زخات الرصاص وأرتال الدبابات، كانت تواصل جمعة بعد أخرى، تبديد كل تلك الشكوك والهواجس، ودحض كل الافتراضات المسبقة والمراهنات المعلقة على قدرة النظام المتمرس في احتواء كل مظهر احتجاجي وإسكات كل صوت بقوة الحديد والنار، في قمع هذا الحراك واستئصال شأفته من الجذر، خصوصاً بعد أن اتسع نطاق الحركة الشبابية وانتقلت من درعا ومحيطها إلى شتى أنحاء الديار السورية، وارتفعت راياتها وهتافاتها المدوية في محيط دمشق، وأحياناً في بعض أحياء العاصمة المدججة بقوات أمن نخبوية مضاعفة.
ومع ذلك كله فقد بقي السؤال المعلق في فضاء التحليلات والتوقعات المتباينة هو هو، يستبطن ذات القلق على مدى صلابة الإرادة الشعبية وعلى قدرة الزخم الداخلي المجرد من كل إسناد عربي ودولي يعتد به، باستثناء الاحتضان الإعلامي الواسع، على بناء التراكم الكمي ومواصلته إلى أطول أجل ممكن، وذلك إلى أن يحدث التحول النوعي المرغوب فيه، وتأزف اللحظة التي يتجاوز فيها الحراك الشعبي نقطة اللاعودة، وتتحول فيه هذه الظاهرة الاحتجاجية إلى ثورة شعبية لا تقبل الارتداد إلى الوراء.
ذلك أنه من المقدر لكل مسار على مثل هذه الدرجة من الأصالة، وهذا المدى من الاتساع، أن يشهد واقعة استثنائية تكون بمثابة لحظة كاشفة لها ما بعدها، حيث يحدث التحول النوعي المشار إليه آنفاً وتتحقق الصيرورة التاريخية، تماماً على نحو ما شهدته الثورة المصرية مؤخراً في واقعة ما عرف باسم معركة الجمل، أو ما كانت قد عرفته الانتفاضة الفلسطينية الثانية في حادثة الاستشهاد المتلفز للطفل الغزي محمد الدرة، أو غيرهما من الوقائع الحاسمة في مسار الحروب والتطورات المماثلة، لا سيما ونحن اليوم في عصر الصورة الرقمية.
وهكذا، فقد شاع تقدير عام أولي أن تلك اللحظة الفارقة قد أتت على حين غرة من قرية البيضا القريبة من بانياس الساحلية، حين نجحت عدسة هاتف جوال في توثيق مشهد تدوس فيه أحذية شبيحة أحد أجهزة الأمن السياسي، رقاب مواطنين سوريين مقيدين ومبطوحين على وجوههم، وهو المشهد الذي زعمت بعض أجهزة الإعلام السورية أنه من صنع البيشمركة الكردية في العراق، فيما ادعت أخرى أنه لفدائيي صدام حسين، ثم عادت وأقرت بصحة الواقعة المهينة لإنسانية الإنسان، وقالت إن رئيس ذلك الفرع قد تم نقله وليس محاكمته أو فصله.
ولم يمض سوى قليل من الوقت حتى كانت صور المقابر الجماعية من محيط درعا تنسخ واقعة البيضا، وتحدث هزة أعنف في الوجدان الإنساني داخل سورية وخارجها، وتؤدي إلى تطور أفضل في موقف الدول الغربية التي رفعت عقيرتها، بعد تردد غير مبرر، منددة بفعل يرقى إلى رتبة المجزرة الجماعية، ويدخل في باب الجرائم ضد الإنسانية، وذلك على نحو ما عكسته سلسلة العقوبات الرمزية ضد كامل هرم القيادة السورية، وما لهجت به ألسنة كبار الساسة الأوروبيين والأميركيين الذين خيّروا الأسد لأول مرة بين قيادة الإصلاح وبين الرحيل.
إلا أنه بعد هول المشهد الذي كشفت عنه صورة الفتى الحوراني حمزة الخطيب، وبشاعة ما تعرض له من تعذيب أشد مما يتحمله جسده الغض أو يستوعبه عقل إنسان سوي، فإنه يمكننا القول إن التحول النوعي الذي طال أمده قد تحقق بالفعل، وإن روح الشهيد حمزة قد منحت الثورة السورية المناعة الذاتية ضد أي ارتكاس محتمل، وأعطتها قوة دفع داخلية لا محدودة، وجسدت على نحو عياني وملموس نقطة اللاعودة في مسيرة ثورة لم يتوان القتلة عن تزويدها، كل يوم، بالطاقة اللازمة لتجديدها، وإكسابها مزيدا من المشروعية الأخلاقية والمضاء والتحقق والاستمرارية.
الغد