لذة اليأس المحرّمة التي حلّ عليها الأمل بين ليلة وضحاها
دلال البزري
ما قبل الثورات العربية وما بعدها: بهذه العبارة ينقسم زمننا الآن. صار بوسعنا أن نقيس، ان نقارن، بين ما كان قبل الثورات وما هو جارٍ بعدها. هي تنبّهنا الى اننا كنا نرسو على حالة، وأصبحنا الآن نتمايل، نتراقص، نتلعثم… فوق حالة أخرى.
يأسنا قبل الثورات، كان عنوان مناخنا وحالنا. كان يأسا لذيذا، مغريا. يأس يحرّمنا من المسؤولية. طالما ان هناك ما يحكمنا كما لو كان قدراً… الى الأبد. كنا مثل محبّي الظُلمات، رومنطيقيين أو هجّائين أو مولعين بآداب مصاصي الدماء الكالحة، نرى في العتْمة منبع الابداع: نطير فرحا بالمأساة او الدموع العاجزة، نرى فيها إلهاما، وحيا من رقّة الزمان، شعرا يهبط علينا من ثمرات الحرمان والإحباط .
كل ما حولنا يخيفنا، ولكن خوفنا على انفسنا، على ذواتنا الخاصة كان هو الأعلى، الأول. نفرّ بجلدنا، ندعو للطوَفان من بعدنا، نتجنّب التورّط في أية بارقة أمل. بعد مشكلاتنا أو مسائلنا، الخاصة دوما، نستسهل كل المشكلات أو المسائل. نعتقد بأننا حمينا انفسنا من تبعاتهما بمجرّد ابتعاد اجسادنا عما يرمزن… مجرّد رمز اليهما.
كنا نقف امام انعدام افقنا، امام الاهانة لكرامتنا، امام الأسرار المحجوبة عنا، أمام الاكاذيب، أمام ضجر تكرارها…. كما لو كان كل ذلك من قبيل القدر المحتوم… الى الأبد. لاعب واحد، وفي حدّ أقصى اثنان، والباقي الكومبارس المرح، المبتهج بهذا القدر من الدور، بهذه النوعية من الادوار.
الجدار المسدود في وجوهنا كالإسمنت المسلّح المحيط ببنائنا، العشوائي والبشع: ندهنه بالألوان، نضع على جنباته بضعة قبور وأزهار، ونتحمس للقول “هذه مدينة القبيحة… كم أحبها! مثل حبيبتي القديمة الفاقدة لشبابها” الخ….
فيما الاهانة وجروحها العميقة المجرّدة نتجرّعها كما لو كانت من معالم الحياة، أو من ضرورات استمرارنا، أو كمدرسة نمتحن فيها فضيلة الصبر، المطلوبة للتأكيد على “طبيعية” يأسنا، نغرف منها طاقة المكابدة والتحمّل، ولكن دائما في حدود اليأس المسموح. الأسرار والأكاذيب كانت تريحنا من شقاء البحث والسؤال والقلق والمجهول. اذ لا نريد المسّ باستقرار يأسنا وهناءته.
والضجر… آه كم كنا نضجر مما كنا فيه؛ نتملْمل منه في أوقات الصفاء، نتبرّم منه حين يخوننا يأسنا، لكننا نقتله بالتسلية…. كم اخذت التسلية من ألبابنا وألساننا وأوقاتنا، حتى صارت إدمانا، طقسا، إحياء، في زمن اليأس المديد. يا لدفء اليأس وألفته….
ثم جاءت الثورة وحصل الزلزال فأبرق الأمل، وغادرنا اليأس المريح: صار مطلوبا منا، بناء على الأمل المستجد، ان نخرق روتين اليأس وعاداته المستفحلة الراسخة. صار مطلوبا منا موقف يومي، فعل يومي… نشعر بالتاريخ ينزلق من بين اصابعنا إن عاندنا الأمل، وابقينا على سباتنا القديم. هل نتذكر كيف كنا، مثل صبية الكشافة الذين لا يحارون حول “واجبهم” أو “دورهم”، عندما داهمتنا الثورات العربية؟ صرنا نتساءل، شاعرين بصغر انفسنا، ماذا بوسعنا ان نقول، أن نحلّل، أن نتحرّك، ان نغادر من قديمنا….
اختلّ ميزان يأسنا، موازين قواه. وحضر الأمل من غير ان نكون جاهزين. الجهوزية للأمل، هل يمكن ان تأتي بعدما كانت الجهوزية لليأس، لذّة اليأس، هي قلعتنا الحصينة؟ وهل نملك خيارا آخر؟ بالضبط مثلما كان اليأس قبل الثورات هو الخيار الوحيد المتوفّر، حلّ الآن الأمل بصفته ايضا ما لا نملك غيره؛ انقلاب مفاجىء، مثل الصاعقة، باغت اليأس وقتله بعنف وسرعة. نمنا على يأس وأستفقنا على أمل؛ كما في الاساطير أو عالم العجائب. والأمل هذا فيه جبروت يهزّ استقراراً بني على يأس، وظُنّ انه أبدي.
ثم اننا مفتونون بهذه الثورات، والفتنة لا تلغي الخوف. الآن سقط الجدار الذي كان يقف بيننا وبين الآفق الواسعة، وبدت الحياة بألوان اخرى، كأنها تقف أمام بحر لا نهاية له.
الأمل المحبَط منذ دهر بتغيير وجهنا ووجه المنطقة بزغ من جديد؛ وغموض ما سوف يفضي اليه هذا الامل لا يلغي سحر الآفاق المفتوحة على المجهول. كنا نعتقد بأننا مدركون لمصيرنا ومستقبلنا وقانعون بما “تخبئه” لنا الاقدار، ومتأكدون بأنها لن تكون مفاجاءات سارة.
والآن لا نعرف، ولكننا مشدودون الى هذا المجهول، مذهولون بمكنوناته. الاعتياد على ما كنا نخاله معروفا ايام استقرارنا على اليأس، لم يردعنا عن الاقبال على ما ندرك انه مجهول المجهول. مع كل ما نعدّه في انفسنا من الاستعداد لمزيد من المفاجآت طالما ان الثورات راسية هنا، متعثرة هناك وماضية هنالك …
أحيانا ننتكس: نفقد فجأة الأمل، بنفس وتيرة حلوله علينا، إثر تراجع ما لثورة، أو احباط بعضها، أو تزايد مرعب في ثمن غيرها، بالبشر والحجر. لمحة يأس تذكرنا بالراحة السابقة، بالهناء الخامل الذي كنا عليه البارحة. يحلّ علينا يأس مؤقت، كأننا اشتقنا اليه، نردد كلماته، نسير بحسبه… سيما واننا خائفون هذه المرة، خائفون جدا، ليس على انفسنا فحسب؛ صرنا نخاف على الجموع، على دائرة أوسع من دائرة اليأس الضيقة. نتابع أعمال القتل والاعتقال والتعذيب والاغتصاب والتشريد، والتجويع… هل تكون الثورات العربية، مثل الثورة الجزائرية، بمليون ونصف شهيد؟
لكنها انتكاسة لا تدوم، فالأمل أقوى… علينا الاعتراف بذلك. فنعود ونفتح اعيننا ونصغي ونتأرجح ونسأل؛ في تلك الآمال نجد لذة مختلفة عن لذة اليأس.
في عهد اليأس غير القديم، كنا لا نعرف. وكنا نكتفي بالانطباعات اذا أردنا التحرّش بما لا يخصّنا من أوضاع خارجة عن نطاقنا الضيق. الثورات كشفت الاحجبة، كأنها فتحت خزانا ضخما من الوقائع والارقام والاحداث عن انتهاكات وسرقات وجرائم وتلاعبات، نحتاج الى سنوات لاستيعابها وفتح ملفاتها السرية وفك رموزها وعقدها ومترتباتها.
والثورة سمّت الاشياء بأسمائها؛ بل اخترعت لغتها، اخترعت اسلوبها وطريقتها. لم تنسخ من احد، لم يشحنها احد، لم يشغلها أحد غير أبنائها. لذلك كانت خلاقة، مبدعة. اغانيها، شعاراتها، سلميتها، تعبئتها، ابطالها الشجعان وصدورهم العارية غير المتهيبة، لا الرصاص، ولا الدبابات، ولا السيوف اللامعة. في كل يوم جديد تعطيك هذه الثورات شيئا من نفسها، ولا تسمح لك بالاستكانة. عاد عقلك يشتغل ولكن بطريقة لم تعهدها. مثل الآفاق الجديدة، تقدم الثورة اقتراحاتها المحدّدة للتفكير والتحليل والتأمل… لذة الادراك والمعرفة تعيدنا الى نداوة انفسنا، الى شبابها، الى ايام الأمل والمستقبل المستلقي امام اعيننا…
الضجر تبخّر بنتيجة ذلك. لا مكان للضجر في زمن الثورات. ومثل المعرفة ذات النكهة والاسلوب الجديد، تكون تسليات الثورات: لا تشبه تسلية عهد اليأس، المملّة، المكرّرة، الجوفاء. تسلية هي التسلية: كل شيء فيها حيّ، جديد، ومخيف في آن. يا لكرم الثورات…
المستقبل