لرحلة إلى الشرق: صور تدمر/ جوزيف الحاج
ا
أمام التهديدات المحدقة بآثار تدمر نشر “معهد غيتي للبحوث” عدداً من الصور القديمة للمدينة الأثرية يعود تاريخ إلتقاطها إلى أكثر من 150 عاماً، وقد تزامن تاريخ تصويرها مع السنوات الأولى لعمر الفوتوغرافيا، الواسطة التي توثّق الواقع بأمانة.
التقط هذه الصور الفرنسي لويس فيني (1831-1896) Louis Vignes الضابط في البحرية الحربية والمصوّر الهاوي، البارع في تصوير تقنية “كالوتيب” الجافة، وهي عبارة عن سلبية ورقية ملائمة للتصوير في الرحلات البعيدة، على عكس السلبية الزجاجية الثقيلة الوزن والمعرّضة للكسر. راجت هذه التقنية، التي وضعها الإنكليزي وليم فوكس تالبوت في 1841، في أوساط المصورين الرحالة الوافدين إلى الشرق. تميزت بجمالية تشكيلية بفعل نسيج الورق المستخدم لها، والذي يجعل أطراف الصورة ضبابية غير نقية، وهو أسلوب حرص عليه من جاء إلى الفوتوغرافيا من الرسم، مثل غوستاف لوغراي وآخرين.
طلب الدوق دو ليني De Luynes، المهتم بعلم الآثار، من لويس فيني مرافقته كمصور لبعثته الأركيولوجية والعلمية لما له من خبرات كبحّار، ومواهب كمصور ومراقب علمي، ولمعرفته العميقة بالمنطقة بعد أن أشرف على توسيع مرفأ بيروت، ثم إدارته بين 1862 و1865 بعد جولة في بيروت، القدس، يافا، البحر الميت، وادي عربة، دمشق وطرابلس، وقد وصلت البعثة إلى تدمر في أيلول 1864 ومكثت فيها حتى نهاية تشرين الأول.
تعرّضت سلبياته في تدمر لتأثرات مناخية بفعل الحر المؤثر على تركيبتها الكيميائية، لذلك لم تكن النتائج مرضية بنظره. عدد الصور التي التقطها بين تدمر وبيروت تفوق المئة، ما تبقى منها محفوظ في المكتبة الوطنية الفرنسية وعددها مئة وصورة. أعيدت طباعة 64 صورة من المجموعة بتقنية “هليوغرافور” أو “الحفر الضوئي” على يد محترف شهير هو المصور الفرنسي شارل نيغْر(1820- 1880) هي نفسها التي إعتمدت في طباعة الألبوم الذي جمع أعمال البعثة “رحلة إستكشافية إلى البحر الميت، بترا، وشمال الأردن”، ونشر بعد وفاة الدوق في 1867.
كان السفر إلى الشرق حلماً إرتبط بحبّ الإستكشاف والمغامرة في القرن التاسع عشر، وبالحنين الذي أثاره إكتشاف الحضارات القديمة. رحلة غوستاف فلوبير ومكسيم دو كامب إلى مصر مهّدت لهذه المسيرة الإستشراقية إلى مصر، فلسطين، سوريا، لبنان إنتهاءً في تركيا. الرحلة إلى الشرق، أو “الجولة الكبرى” كما أطلق عليها، شملت الإكتشافات الأركيولوجية والعلمية والإتنوغرافية، وغيّرت ملامح هذا الشرق معلنة نهاية حلم.
منذ 1839، تاريخ ولادة الفوتوغرافيا، كان من بين الرحالة إلى الشرق، قلة من المصورين الذين كان عليهم إضافة معدات ثقيلة إلى أحمال السفر الضرورية. الفترة الواقعة بين 1850 و1880، تاريخ إنتشار البطاقة البريدية، تعتبر العصر الذهبي لتصوير الشرق. لم تشمل هذه الرحلات سوريا ولبنان إلاّ نادراً، بسبب القلاقل والصراعات الطائفية والمذهبية، وتأثير الموقع الجغرافي المحاصَر بين تركيا من جهة وبين مصر وفلسطين وبلاد ما بين النهرين من جهة ثانية. كان مقصد الغربيين مناطق مهد الحضارات والديانات، أما الطريق إلى “تدمر” فكانت رحلة شاقة على ظهور الجمال تستغرق أياماً طوالا.
لقطات لويس فيني، المبتعدة بذكاء عن النظرة الإكزوتيكية السهلة، هي أول الصور الفوتوغرافية لتدمر. وثائق نادرة لمنطقة مصنفة كتراث عالمي قال عنها فرنسيس ترباك: “صور رائعة ومهمة لتاريخ علم الآثار كما لتاريخ التصوير الفوتوغرافي، خصوصاً أن من طبع هذه النسخ الـ 47 هو شارل نيغْر”.
بيروت اليوم تغيرت كثيراً عما كانت عليه في صور لويس دو فينيي بالطبع، أما تدمر فقطعت أشواطا نحو ملاقاة مصيرها. وربما قدر هذه الأماكن أن تعيش في الصور فقط.
المدن