لساندرا أطْلالٌ بِبُرقَة بريمن/ أحمد عمر
ضاق العمال جميعا بالحذاء الثقيل، هذا حذاء سيزيفي، وزن النعل الواحد يبلغ الكيلو غرام وانتقام، وسوى ذلك رقبة الحذاء عالية، ولها وسادة قاسية، تنطح ربلة الساق عند كل خطوة، وهذا يجعل عاقبة من يمشي مترا وكأنه قطع ثلاثيناً.
تساءل: ما جدوى حذاء الأمان الصناعي في مركز لتوريد الورود وتوزيعها في ألمانيا، الذي به نعمل، وقال لنفسه: هذا ما لم تحط به خُبرا.
وجد أخيرا أن لحذاء الأمن الصناعي فائدة، فمنتعله ينتفع به في ركل كابح عجلة العربة، من غير أن ينحني، كبحا لها أو فكاً، ربما تحمي القدم من سقوط أصيص ورد، فبعضها كبير وثقيل. الألمان لا يعملون إلا بعد تحقيق عهد الأمن الصناعي الكاملة، وكل أعمالهم يؤدونها في المشاغل، وهم يرتدون القفازات الواقية حتى وإن كانت أعمالا ناعمة مثل ضم الورد في أضاميم وحزم.
العمل سهل، واجبه أن يدفع عربة فيها عشرات باقات الزهر، أو أن يقف على مفرق سير يجري على عجلات عليه باقات ورد، فيزجي الباقات البيضاء لساندرا والباقات الصفراء ليوسفه، تصنيفا وزُمراً. ويوسفه هو مؤنث يوسف، ويلفظ عندهم يوسيبا. العجم شجعان في التصرف في الأسماء، فقد تجد اسما لآدم وقد أطلق على أنثى بعد مد الحرف الأخير، أو اسم حواء سمي به ذكر بعد تسكين الحرف الأخير! المثقفون العرب يجتهدون كثيرا في الحديث حول الجندر، والجنس الثالث. مؤخرا وجد كثيرون من المثقفين، يلحقون ضميرين بالاسم أو الصفة ضميرا لأنثى وضميرا للذكر، دليلا وآية على احترامهم للجندر والجندرة والغندرة الحضارية الثقافية، بئس الرفد المرفود.
لا يضايقه في عمله الجديد سوى زميلين؛ باكستاني اسمه أولادي عبد الله، وأفغاني اسمه روح الله زمزمي، فهما شديدان، ومتوقدان كرأس الحية. زميله أولادي ينبهه دوما إلى أنه يشرد عن العمل، وينام وهو يمشي، كأنه معلمه في العمل، أما روح الله زمزمي فهو يعمل في الأمن، يراقب الداخلين والخارجين ويفحصهم بعصاه الإلكترونية وعيناه تدوران توقدا وتربصا. لم يعرف سبب كل هذا الحرص على فحص الخارجين فالورد لا يسُرق في الجيوب. لعل في العمل سوابق سرقة براغي أو قطع معدنية، بل أن أولادي اشتط وجاوز الحد مرة، وقال له أنه ضبطه بالجرم المشهود، فقال أي جرم؟ قال له: حضرتك لا تعمل إلا مع الحسناء ساندرا أو الحسناء يوسفه. وساندرا بولونية، ويوسفا بلغارية وكلتاهما حسناوان، يعني يعمل معهما “أن تيم”، فغضب وكتم غضبه، لعله قال الحقيقة، وكان قد أدرك باكرا أن الشعوب المنكوبة بالفقر كثيرة الحيلة الاجتماعية لكنها ضعيفة الحيلة الاقتصادية، فهي تنشغل بالمكر الاجتماعي تعويضا عن البطالة. ليست يد البطالة نجسة، لسانها ماكر أيضا.
وآثر السلامة والحلم فقال معترفا: ليس أذهب للبِّ الرجل الحازم منهن.
وكظم غيظه وأمسك عن القول: فهذا أفضل من العمل مع غليظ فظ مثلك.
رجته السيدة مندوبة الشركة في اختيار الوردية الصباحية، فقبل، استيقظ باكرا قبل أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وانطلق على دراجته في قلب الغابات اختصارا للطريق، مهتديا ببوصلة البر، وغريزة جهاز الهاتف الخليوي الآلية، إلى أن حفظ الطريق، ثم أصبح أسرع يوما بعد يوم، فصار يصل بعشرين دقيقة، و هو يلهث من التعب، في الفجر الضحوك. عرف في الأيام التالية درّاجا مثله يقطع الطريق نفسه، فتبعه. نور دراجته قوي ساطع، أقوى من نور سيارة أو يماثله، أما ضوء دراجته فشحيح ونزير، شعاعه صغير، وهو لا ينفع سوى لتنبيه القادمين، فهو لا ينير الطريق، مثله مثل مصباح ديوجين، يهدي السبيل للآخرين.
أنطلق في أثره مستهدياً بضوء دراجة صاحب الطريق، ثم افترقا بعد الوصول. انتبه إلى أن رموشه قد اخضلّت ، وأصبح يرى الأشياء عبر موشورات قطرات الندى، وقد رفعت على عروشها، فمسح عينيه ومضى إلى فريق الورود والأزهار، إلى حلبة حروب النبات.
قال له سبحاني شامتا وهو يرفع له إصبعا وسطى غير مرئية: أنت اليوم ستعمل معي.. زميلتك ساندرا تعمل في الإدارة، ويوسفه غائبة. أعزيك.
فسكت.
قال سبحاني: هي جميلة ماهرة في برنامج أكسل، ويحتاجونها في الإدارة أحيانا.
قال في نفسه: لا أظن. الجمال في المانيا لا يعني كثيرا، الذكاء أهم من الجمال في الاقتصاد الألماني. الاقتصاد الألماني ليس مثل الاقتصاد في بلداننا، الذي يقوم على الريوع والغنيمة والقبيلة والغزو، والابتزاز بالسكرتيرات. ناجى نفسه: استعان الشاعر المتلمس بغلام يعرف برنامج اكسل فنجا من الموت. في قصة الصحيفة التي حملهما ملك الحيرة عمرو بن هند المتلمس وابن أخته طرفة بن العبد، إلى عامله بالبحرين ليكافئهما، أمر عامله بقتلهما، ففتحها المتلمس وكشف ما فيها، أما ابن أخته طرفة، الذي عُرف بالشاب القتيل، فطمع بجائزة ملك الحيرة، فبلّغ الرسالة وكان فيها حتفه. قال: فلم “اكسل” ولم أتبلد..
لم يكن يعرف برنامج أكسل!
في الاستراحة كرّر سبحاني القول متحسراً ومتشهياً: الألمانيات جميلات.
وافق: هنَّ كذلك.
قال: وهبلاوات.
سأل: كيف؟
قال لا أعرف.. لكنهن غبيات..
أعجبته ملاحظة سبحاني، فقال له لما تمطى بصلبه: انظر كيف تمشي اولركي، انظر إلى كاترينا، حركات اليد لا تناسب حركات الرجلين، وكان محقا في الوصف. هنّ بريئات طيبات، لا يعرفن شيئا كثيرا عن العالم سوى ما يبثه الإعلام، ولسن مثلنا نسائنا الحذرات الكهينات.
قال لنفسه: إن فلاسفة الغرب كانوا يفضلون المرأة الجميلة والغبية على الجميلة الذكية، مثل كانط وإدغار آلان بو وإسحاق نيوتن. أولئك فصلوا ما بين العقل والمرأة، بينما كان الخلفاء والأمراء العرب يحبّون الفصيحات والذكيات الجميلات، وقد تقدمت صناعة الجواري في العصر العباسي حتى صارت لهن معاهد، ومدارس. تحفل قصص ألف ليلة وليلة ببعض هذه الأخبار، مثل قصة الجارية توود.
قال: أني كل صباح أرى في طريق غزلانا، لكني اليوم رأيت خنزيرا.
ثم وجد فيه لمزاً خفيا لسبحاني فأمسك، الصمت من ذهب..
عادت ساندرا، من غرفة أكسل ولم تتبلد، فقال: إنها جميلة حقا.
وقال سبحاني: انظر إلى وقفتها كالصارية. أرأيت مثل المنظر في مفازة العمر.
وكانت تقف على ساق واحدة، وتلفُّ الأخرى عليه، مثل طائر النحام، كانت تقف وقفة عزٍّ مثل إشارة الموسيقى ومفتاح الصول.
في ظهر اليوم، فصل وزميله خالد المغربي بين عربيين كادا أن يقتتلا لكماً، بعد أن اشتبكا، ويبدو أنهما اختلفا، ليس على جنس الملائكة أهي ذكر أما أنثى، إنما على جنس الشياطين البشرية، كانا يختلفان على رئيسين عربيين؛ هذا يمدحه ويعظّمه، وذاك يذمّه ويشتمه.
قال لهما خالد وهو شاب مغربي مولود في المانيا: انظروا الكاميرات في كل مكان، ستخسران العمل وتسيئان إلى سمعة العرب.
بعد انتهاء موعد العمل، يمكنكما أن تقتتلا حتى الموت. الدفن علينا.
كانت ساقه تؤلمه بشدة، في اليوم التالي أحضر مقصاً، وقصّ رقبة الحذاء فصار مثل حذاء الرياضة، قال: فلتغرمني الشركة بثمنه، عذاب هذا البوط لا يطاق. كشف فعله لزميلتي الورد والزهر ساندرا ويوسفه، فتأستا به، وشعرتا بالراحة، والخفة، وشكرتاه كثيرا
كيف غابت عنا هذه الفكرة. لقد خذّلت عنا.
في ما بعد عرف أن صاحب الدراجة التي كانت تهديه السبيل هي ساندرا، وكانت تضع على رأسها خوذة راكبي الدراجات النارية، فطرقات الغابة وعرة، وخطرة، عرف ذلك متأخرا في اليوم السابع الذي استوت فيه الكينونة على صفحة الوجود، مثل صدفة ألقى بها الموج على الساحل.
شكرته ساندرا كثيرا. وكلما مشت خطوة قالت: فكرة سهلة ومريحة لم تخطر لنا.. شكرا لك.
قال: أنا الدراج الذي يسير ورائك كل يوم يا إمامتي. وقال وقد اخضلّت رموشه بالندى في الظهيرة من ضباب اللوعة والشوق، لا تنسي أني قدمت لك أحد عشر ألف باقة ورد، من الياسمين الألماني، والياسمين الشامي أكرم من الألماني وأطيب، وله رائحة عطرة.
قالت له: لم لا تعمل وردية كاملة؟ العمل سهل.
فسكت عاجزاً عن ترجمة قول الشاب القتيل: أرى العيش كنزا ناقصا…
وقال للآنسة ساندرا صاحبة أكسل، ووقفة النحام: وأشكرك على وقفة النحام أيضا، وأنت تنتصبين في الاستراحة، على ساق واحد، وتدخنين. لقد كنت تضيئين لي السبيل.
أبى عامل البحرين قتل أشعر العرب، وهو الشاعر الوحيد الذي استشهد الرسول عليه الصلاة والسلام بشعره مكسور الوزن. أعاد عامل البحرين طرفة إلى ملك الحيرة، فأكرمه الملك بعرض سمح: اختر لنفسك ميتة تهواها.
ابتلت رموشه بالندى ولؤلؤ الطلّ، والتبس الشرق بالغرب، وخولة بساندرا، فأنشد: “ليوسفه أطلال ببرقة ثهمد..”
إنّ في الشوق لحتفاً.
قال: صحيفة الهوى أقتل من صحيفة المتلمّس.
المدن