لستُ كافراً يا دمشق!/ نديم الوزه
“فندق الشام” ليس الشام. هناك أشياء كثيرة تثبت ذلك. أقلّها حجم المكان وزمانه الطارئ وهامشيته بالنسبة إلى فنادق أخرى، مثل فندق “الفصول الأربعة”. لكن حديثي هذا في خصوص البيرة الأجنبية التي كنا نشربها فيه بين الحين والآخر، بينما كنا نشرب بيرة “بردى” في “بيت جبري” العريق في دمشق القديمة. لكن حتى “بيت جبري” لم يعد بيتاً وإنما صار مطعماً لا ينتمي إلى البيوت إلا بالاسم هو الآخر. البيرة إيديولوجيا حديثة للجسد، لا أحزاب لها في البلدان المتخلفة، لذلك اختفت بيرة “بردى” من الأسواق مع بداية الربيع العربي. أذكر البيرة لأنها كانت مشروبي المفضل في صباي، وكانت تساعدني في التبوّل على العالم اقتداءً بقصيدة مظفر النواب، مظفر النواب الشاعر العراقي الذي كنت أراه صامتاً يتجول على أرصفة دمشق ومقاهيها، كتب نصاً عن دمشق أكثر إثارة من نصي هذا، ولكنه أكثر اتزاناً من هيجان حاملي رايات “الله أكبر” السوداء والبيضاء والخضراء. كان يدافع فيه عن سيجارة “الحمراء” الطويلة وأعواد الكبريت من ماركة “النسر” السورية، مع أنها لم تشتعل إلا بعد محاولات فاشلة، ثمّ يصرخ: “هذه دمشق يا أولاد…”.
* * *
أنا لم أولد في فندق أو في بيت فخم. ولدتُ هناك – المسافة تبدو لي الآن بعيدة حقاً نحو 48 عاماً- في القابون على أطراف الغوطة الغربية الملاصقة للمدينة. ولدت في غرفة من تراب ونشأت في غرفة من صفيح. ما جعلني حزيناً وفقيراً أنّ المدينة أخذت تسمن مع كلّ سنة أكبر فيها، بينما الغوطة أخذت تَنْحلُ وتضمر في الوقت نفسه. قبل أن أولد بسنة، كان أبي قد أتى من كفرية، إحدى قرى الجبال في اللاذقية واشتغل عامل نسيج في شركة الخماسية – هذه المعلومة مهمة لي لأنها تفسّر مهارتي اللاحقة في نسج الكلمات، وصعودي المستمرّ إلى قمم الخيال وحيداً.
* * *
لا أُصول في دمشق، على الأقل منذ معاوية بن سفيان الذي ولد في مكة وحكمها بإرادة الخليفة القرشي وقوة السيف وحدهما- لم يكن ثمة ديموقراطية في زمانه ولا حقوق للإنسان! لا أصول في دمشق، حتى يوسف العظمة كرديّ أيضاً، بينما نزار قباني من سلالة تركية، وهنالك سلالات كثيرة على هذا النحو: الرومي والمصري والبغدادي والجزائري والحموي والحلبي و… كلها تدّعي عراقة دمشقية! بينما دمشق مثل معظم مدن شرق المتوسط الكبيرة هي أمّ أو مكان رحمي.
* * *
بنو إسرائيل، بنو هاشم، بنو أمية (حتى عيسى بن مريم نما من شجرة النخيل في النص القرآني!) قبائل عريقة في التاريخ السامي – العربي، لكنها لم تعد موجودة إلا كأسماء محتها الأديان والطوائف. ما هو موجود الآن سلالات إيديولوجية لله الواحد. بمعنى آخر، لم تعد الأديان والطوائف سوى قبائل إيديولوجية، لمّا تستطعْ التعايش مع الحضارة والمدينة الحديثتين.
* * *
“المدينة غريبة كأمّي”، عنوان لأحد كتبي. أقصد بالمدينة دمشق، وكريمة هو اسم أمّي. كانت كريمةً إلى درجة أرضعتني من حليبها الذي خزنته من طبيعة كفرية وكرومها، مقدار ما يكفي ثلاثة أطفال وربما أكثر. ربما هذا ما يفسّر قلة طعامي في صباي وانفتاح شهيتي بعد أن ماتت.
* * *
في بساتين القابون الدمشقية لم أكن أركض وأنا طفل وراء الفراشات. كنت أركض أمام النواطير وجيوبي ملأى بما توفّر من خضر وفواكه. كان مسموحاً لنا بالتقاط حبات التوت فقط. وليس هذا كاستعارة عن النساء الملتحفات من أعلى رؤوسهنّ إلى أخمص أقدامهنّ. وليس هذا بسبب صناعة الحرير التي حاربتها فرنسا. وليس هذا بسبب صناعة السرير التي تحاربها تركيا.
* * *
في صباي أحبّتني فتاة من وراء الباب. كلّ ما حصل، أنها أرتني وجهها المبتسم مرتين، وحلمتُ به مئات المرات، ولا أزال أذكر منه تلك الشامة الناعمة على جانب شفتها العليا إلى اليسار قليلاً.
* * *
في دمشق يعيش الفقير حالماً ولا يستيقظ إلا على إغماضته الأبدية.
* * *
لم تكن الجنة في دمشق هي الغوطة في نظري. كانت داخل الدكاكين والمطاعم والأسواق، ولم أكن كافراً بها قطّ، ومع ذلك لم أدخلها إلا لماماً، وغالباً لأتفرّج.
النهار