صفحات العالم

لعبة الأمم والمؤامرة الخارجية/ بدر الإبراهيم

 

 

تهيمن نظرية “لعبة الأمم” على تحليلات سياسية عديدة للأوضاع العربية، وهذه النظرية تصوِّر العالمَ رقعةَ شطرنج، والأمم أحجاراً تحركها القوى الكبرى، فلا تحصل حركة في مكان، إلا والقوى الكبرى بأجهزة استخباراتها حاضرة، تصنع الحدث، وتجيّره لخدمة مصالحها.

يستخدم محللون ومثقفون عرب هذه النظرية في تفسير قيام الثورات العربية، فينصب الحديث على دور الأميركيين والغرب في صناعة هذه الثورات التي تشكل مؤامرةً لتقسيم العالم العربي، وامتداداً لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تبناه المحافظون الجدد في أميركا. راج هذا التحليل في “إعلام الممانعة” مع انطلاق الثورة السورية، فتحول تمجيد الثورات قبلها إلى ذم وقدح بعدها، وصار الفعل البطولي للجماهير في الميادين مؤامرةً أميركية، تستهدف المجتمعات العربية وسلمها الأهلي.

ليس غريباً رواج تحليلات كهذه عند مجموعاتٍ اعتادت التأكيد باستمرار على وجود مؤامرة أميركية على الأمة ومحور الممانعة، لكن الغريب (والمضحك أيضاً) تبني مجموعة من المحللين والكتاب الذين يعتبرون من أصدقاء أميركا في الإعلام العربي هذه التحليلات، والحديث المتكرر عن “ربيع المؤامرة” في الإعلام المحسوب على حلفاء أميركا والغرب. إنها ظاهرة مثيرة للاهتمام: اجتماع إعلام الممانعة والاعتدال، والأنظمة التي تقف وراءهما، على التحذير من مؤامرة أميركية، تستهدف المنطقة عبر الثورات العربية.

يزول الاستغراب عند التدقيق في الخطر المشترك، فالأنظمة، على اختلاف سياساتها الخارجية، مهددة بهذه الثورات، والأنظمة المعتدلة تجاه أميركا لم تعد تثق بها بعدما حصل في تونس ومصر، ولا بقدرتها على حماية المعادلة القائمة في المنطقة، بل وتُحَمِّلُها مسؤولية غض الطرف عن إسقاط رؤوس الأنظمة الحليفة في مصر وتونس.

يُستخدم اتهام الثورات بتنفيذ أجندة غربية في التضليل، واستثمار العاطفة الجماهيرية ضد الغرب، فالإعلام المصري التابع لنظام عبد الفتاح السيسي، مثلاً، يؤكد أن المشير أحبط مؤامرة أميركية على مصر، يقودها الإخوان المسلمون، في الوقت الذي يغازل السيسي المسؤولين الأميركيين في تصريحاته لوكالات الإعلام الأجنبية، ويطلب منهم العون في معركته ضد “الإرهاب”، وتدخلاً أكبر في المنطقة العربية، مع تمسكه بكل الخطوط العامة لسياسات حسني مبارك، في العلاقة مع إسرائيل وأميركا.

” تفجر الثورات بالشكل العفوي يضرب نظرية المؤامرة الخارجية في الصميم، إذ يشير عدم ظهور حالة التمرد المنظمة إلى غياب خطة أميركية مسبقة، يتم تنفيذها، وإذا أضفنا إلى ذلك أن معظم الأنظمة العربية على علاقة وطيدة بالأميركيين، نخلص إلى أن الثورات فاجأت الأميركيين وأربكتهم”

الهوس بلعبة الأمم، واتهام الثورات بأنها صناعة أميركية، يشيران إلى تغييب كل الأسباب الداعية إلى ظهور غضب شعبي عارم على هذه الأنظمة، ومن أهمها تفريطها بالاستقلال الوطني، وولاؤها للسياسة الأميركية في المنطقة، بالإضافة إلى الاستبداد والفساد وسياسات الإفقار الاقتصادي. تفجر الثورات بالشكل العفوي الذي شهدناه يضرب نظرية المؤامرة الخارجية في الصميم، إذ يشير عدم ظهور حالة التمرد المنظمة إلى غياب خطة أميركية مسبقة، يتم تنفيذها، وإذا أضفنا إلى ذلك أن معظم الأنظمة العربية على علاقة وطيدة بالأميركيين، نخلص إلى أن الثورات فاجأت الأميركيين وأربكتهم.

تشير المعطيات المتوفرة إلى ارتباك أميركي في التعاطي مع الثورات، ويروي وزير الدفاع الأميركي في فترة أوباما الأولى، روبرت غيتس، في مذكراته، تفاصيل حالة الانقسام داخل الإدارة الأميركية حول الثورة في مصر، ويؤكد أنه كان من الرافضين للتخلي عن الحليف الاستراتيجي حسني مبارك، ومعه في هذا الموقف وزيرة الخارجية آنذاك، هيلاري كلينتون، ونائب الرئيس جوزيف بايدن.

المفارقة تكمن في أن إعلام الممانعة الذي يتحدث عن هزيمة المشروع الأميركي/الصهيوني، وعدم قدرته على مجاراة المقاومة العربية، يقع في فخ تأليه أميركا، بجعلها مدبرة الأحداث والوقائع المختلفة في منطقتنا والعالم. إن القدرات الكبيرة لأميركا لم تمنع هزيمتها العسكرية وفشل مخططاتها السياسية في العالم العربي وأماكن متعددة، والإصرار على إقحامها في صناعة كل حدث مناقض للشواهد التاريخية، ومعبر عن غياب التفكير بفاعلين آخرين، يمكنهم أن يساهموا في صنع الحدث، بعيداً عن قواعد لعبة الشطرنج المتخيلة.

هوس من زاوية أخرى بلعبة الأمم والدور الخارق للأميركيين يبرز عند بعض النخب السياسية والثقافية المناوئة للأنظمة الاستبدادية، فهؤلاء يعتقدون أن الأميركيين يملكون مفاتيح اللعبة في منطقتنا، ويستطيعون إسقاط الأنظمة متى ما أرادوا، وأن عدم استجابتهم لطلبات المعارضة المتكلة على التدخل الخارجي، سببه تخاذلهم، وربما تواطؤهم مع الأنظمة، لا عدم قدرتهم على إسقاطها. هذا التصور نابعٌ من الأوهام نفسها المتعلقة بتعظيم قدرات أميركا، واستصغار قدرة الفعل الشعبي الخارج على أجندات القوى المهيمنة.

لا يمكن إنكار الدور الأميركي في المنطقة، لكن أميركا ليست إلهاً قادراً على كل شيء، وهي لم تصنع الثورات العربية، بل فوجئت بها، وعملت بقوة، ولا تزال، على احتوائها، وتدخلت لحَرْفِ مسارها، خوفاً من تحولها إلى حالة تحرر كبرى تطيح بالهيمنة الأميركية، وتهدد أمن إسرائيل. أميركا تسعى إلى تعطيل الثورة بمفهومها الشامل، بإعادة إنتاج السياسات القديمة للأنظمة الحليفة، ولو بوجوه جديدة، وتقبل الإسلاميين والعلمانيين، والمدنيين والعسكريين، طالما أنهم لا ينوون التمرد على هيمنتها.

الهوس بلعبة الأمم قد يؤدي إلى تكريسها واقعاً، والاستسلام للهيمنة الأميركية، وطلب المزيد منها، والتسابق على التجمّل أمام الغرب، وإقناعه بصحة هذا الخيار أو ذاك (كما في حالة النظام السوري ومعارضته). التحرر من الهيمنة الخارجية يبدأ من التوقف عن النظر إلى ذواتنا أحجاراً في لعبة الشطرنج، تتلاعب بها القوى الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى