إحسان طالبصفحات سورية

لعنة جلب القاعدة لسوريا


احسان طالب

المهاجرين حي من أحياء دمشق الراقية قريب من القصر الجمهوري، تظهر فيه مجموعات عديدة لنساء متلفحات بالسواد الكامل يجتمعن بصورة دورية وأمام أعين الجميع ويتبعن للمربية المشهورة منيرة القبيسي المعروفة بولائها المفرط للنظام السوري ، كذلك يلفت نظرك مجموعة من الشبان يتسكعون في جادات الحي بلحاهم الطويلة وعيونهم المكحلة وأثوابهم الشرعية البيضاء، هذه المشاهد تمر بصورة عادية جدا أمام الأكشاك الأمنية والمخبرين المنتشرين بشدة في ذلك الحي، هذا التوافق يغطي جزءا مهما من المشهد السوري الغامض.

دأب النظام منذ بداية الأحداث العاصفة في سوريا على اتهام ” عصابات إرهابية مسلحة” بالقيام بعمليات تفجير ومواجهة لقواته الأمنية والمسلحة النظامية وجاءت تفجيرات دمشق الأخيرة في حي القزاز قرب فرع مرعب ـ فرع فلسطين ـ من عشرات الأفرع الأمنية المنتشرة في كافة مفاصل وأحياء دمشق، ليلقي مزيد من الشك على مصداقية الرواية الرسمية، فالحواجز الثابتة والطيارة تغطي الشوارع الرئيسة والفرعية ويصعب بشدة مرور شاحنة محملة بما يقرب من طنين من المتفجرات وتتمكن من الوصول إلى هدفها دون كشفها أو إيقافها، ناهيك عن إمكانية تفخيخها في مكان آمن، ومن ثمة خروجها متبخترة لتصل إلى هدفها، ولعل تعليق واحد من عامة الناس على تلك الحادثة بقوله: لو كان لدى المعارضة تلك القوة لأسقطوا النظام منذ مدة طويلة)، يلقي بظلال الشك القاتمة على من خطط ومن نفذ.

لا يمكن لمتتبع نفي الروح الدينية السنية لدى ثوار سوريا الأحرار، فهي ظاهرة واضحة في شعارات الثوار ولافتاتهم ( سيدنا محمد قائدنا للأبد ) ( قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار) (شهداء بالملايين على الجنة رايحين ) ولكن لا يصح بأي حال من الأحوال اعتبار الثورة السورية في خانة الجهادية السلفية، فمنطلقات الثورة ومحرضاتها الفكرية والنفسية والاجتماعية قيم إنسانية عليا تسعى لدحر الظلم ومحاربة الفساد ونيل الحرية المفقودة والكرامة المهدورة. هذه المنطلقات وتلك القيم لا تمت لفكر القاعدة بصلة ولا ترتبط بثقافتها وعقائدها التكفيرية، ولا بأهدافها الرئيسة المتمثلة بإقامة دولة الخلافة ناهيك عن معاداة القاعدة للديمقراطية باعتبارها نظام سياسي غربي غريب عن مفهوم الإسلام للحكم القائم على تولي النخبة ” رجال الحل والعقد ” وأهل الذكر ” لمقاليد الأمور وتعيين الخليفة أو الأمير ومن ثمة تفويضه الكامل بالقرار طالما ضبط سياسته بشرع الله. الثوار السوريون ديمقراطيون بالدرجة الأولى ولا تخلو أي من أطروحاتهم النظرية أو برامجهم وحتى نقاشاتهم وحواراتهم الخاصة من مفاهيم الديمقراطية والدولة المدنية التي يسودها القانون ويحصنها الدستور.

يقف طبيب الثورة السورية المشهور محمد المحمد أمام جثمان الصحفية الأمريكية ومساعدها المصور الفرنسي اللذين سقطا جراء القصف على المركز الإعلامي في حي بابا عمر الحمصي بتاريخ 24-2-2012 ويقول بحزن بالغ وتأثر شديد: هذا جثمان الشهيدة ماري كولفن رحمها الله وأدخلها فسيح جناته ، وهذا جثمان الشهيد ريمي أوشلك رحمه الله وأدخله فسيح جناته.هذه هي الروح الدينية الصادقة والعفوية للثورة السورية التي تجمع أبناء الديانات المختلفة تحت راية الشهادة وأفياء الرحمة الإلهية والجنة المنشودة، هذا الخطاب وتلك الروح متنافرة بشدة ومتمايزة بوضوح عن خطاب القاعدة وعقيدتها الصلبة التي لا تقبل المسلمين المختلفين معها في صفوف المؤمنين ناهيك عن صفوف الشهداء.

في سياق تنامي الاستقطاب الديني الذي فرضته أجندات إقليمية في الشرق الأوسط، تعمق ارتباط العقيدة الدينية بالحراك السياسي، وبمقابل السياسوية السنية التي أخذت مسارا متصاعدا تواجدت السياسوية الشيعية على الساحة بمظاهر مذهبية بحتة أبرزها حزب الله الممتد من إيران مرورا بالعراق وصولا إلى لبنان، جاء دخول عناصر مقاتلة شاركت فعليا بالصراع السوري بتحريض ودعم من حزب الله بردود أفعال قوية باستحضار القاعدة إلى سوريا التي خاضت حربا ضروسا في العراق تحت مسميات مختلفة لكن الصراع الطائفي كان جوهرها الرئيس، وعلى الطرف الآخر من الحدود يثير الدعم الكامل للسلطة السورية من قبل التنظيمات الشيعية المتواجدة في العراق بما فيها حزب الدعوة والتيار الصدري ، يثير حفيظة سنة العراق ، فحكومة المالكي هددت في زمن سابق برفع شكوى لمجلس الأمن ضد النظام السوري لوجود دلائل قوية على استعانة القاعدة والإرهابيين بالمخابرات السورية من جهة التنظيم وتسهيل العبور ، وهاهي اليوم تنسى كل تلك المقولات وتنحاز بشدة حفاظا على النظام السوري، هذا الاستقطاب المذهبي سيكون له رد فعل قوي من كافة المسلمين المتشددين في أنحاء العالم العربي والإسلامي ، فتواجد مقاتلين تونسيين في صفوف الجيش السوري الحر ليس إلا أحد تجليات الاستقطاب الديني للصراعات السياسية ، في ذات الشأن العراقي المتداخل مع الصراع في سوريا نجد موقفا ايجابيا من الثورة السورية عبر عنه رئيس إقليم كوردستان العراق السيد مسعود برزاني الذي شدد على أنه لن يكون طرفا في صراع طائفي لكنه سيفتح حدود بلاده لاستقبال اللاجئين السوريين من عرب وكورد ومدنيين ومنشقين عن الجيش السوري النظامي ، ولا يخفى علينا الخلفية الإسلامية السنية لأكراد العراق. إنها حسابات سياسية لا يمكن نفي اختلاطها بانتماءات دينية مذهبية ، هذه حقيقة لا يجوز الهروب منها أو تجاهلها بناء على الرغائب والأمنيات.

على تلك الخلفية تتمحور التناقضات العربية الإيرانية، فالأخيرة ترى النظام السوري ذراعها الطويلة الواصلة لشواطئ المتوسط وحدود الربيبة الغربية إسرائيل، فيما يرى حكام الخليج وأكثرية شعوبهم خطرا إيرانيا داهما يهدد استقرارهم، وينذرهم بسيطرة فارسية شيعية على مقدراتهم وثروات بلادهم، هذه المواجهة تفرض ذاتها على الأرض السورية، وبطرد عناصر القاعدة نحو سوريا ترمي العدو الإيراني بالعدو القاعدي، على مبدأ رمي الظالمين بالظالمين والخروج من بينهم سالمين. ولا يفوتنا أيضا بروز احتكاك مباشر لا يمكن نفي الخلفية المذهبية عنه نقصد التنافس بين أكبر قوة إسلامية سنية في الشرق الأوسط ـ تركيا ـ مع نظيرتها الإسلامية الشيعية ـ إيران ـ على الشرق الأوسط .

تلك الأجواء تتيح فرصا لتسلل عناصر متشددة عبر حدودهما وتوظيف تلك العناصر لخدمة الأهداف الخاصة علما بأن الروابط بين المخابرات الإيرانية وتنظيم القاعدة لا تفتقر إلى أدلة أو وقائع تؤكد تبادل الأدوار بين الطرفين.

بتنامي البطش وتصاعد أعداد الضحايا وتفشي ظواهر الانتقام وتوالي مشاهد القتل والتعذيب تكتمل محرضات اجتذاب القاعدة لسوريا، مع العلم بأنها لم تحظ بترحيب أو قبول لدى الجماعات السورية المسلحة، في حين هي مرفوضة تماما لدى فصائل الثورة السلمية وتنظيماتها السياسية.

من المستغرب حقا تلاقي رؤى الأعداء المفترضين، سوريا وإيران من جهة، مع إسرائيل والولايات المتحدة في الجهة المقابلة بما يخص وجود القاعدة في سوريا ، فالصحافة الإسرائيلية تروج في أكثر من مناسبة لفرضية دخول القاعدة إلى سوريا وتنامي فكرة الجهاد ضد وجودها، وما يشكله سقوط النظام من خطر على أمنها، وسيطرة متشددين على الأسلحة السورية المتطورة، تتناغم تلك المخاوف مع تسريبات للمخابرات الأمريكية، ومع تصريحات لمسؤولين سوريين وإيرانيين، هنا يبرز التساؤل التالي: هل هناك مصلحة مشتركة لتوفر فرص مواتية وبيئة ملائمة لانتشار القاعدة على الأراضي السورية ؟ فرضية تستدعي تساؤلا أخر : هل يجلب الصراع الطائفي الإقليمي حول سوريا التدخل الخارجي العسكري الذي بات قريبا أكثر من أي وقت مضى، فتصبح الساحة السورية نقطة جذب وإغراء لاجتذاب عناصر جهادية متطرفة تؤويها القاعدة وتغذيها بالخبرات والدعم بذريعة الجهاد ضد القوات الأجنبية الغازية؟ ولتقف في صف واحد مع الثوار المقاتلين الساعين لإسقاط النظام الموسوم حسب تصنيفهم بمحاربته أهل السنة ؟

بنيت الإستراتيجية الأمريكية للحرب على الإرهاب، بأحد جوانبها، على استدراج إرهابيي العالم إلى العراق ومواجهتهم هناك بعيدا عن الأراضي الأمريكية والأوربية، ونجحت تلك الخطة وتم تركز وجود القاعدة في بلدان عربية كالعراق واليمن، ونقلوا معركتهم إلى داخل تلك البلدان ونسوا عدوهم الرئيس وتفرغوا لقتل أبناء جلدتهم. إن الخشية مبررة لتكرار السيناريو في سوريا، فالقاعدة ليست غريبة عن الأراضي السورية ولطالما استخدمتها كمناطق عبور وتنظيم واستقطاب للمجاهدين تحت علم النظام وحتى رعايته خلال الاحتلال الأمريكي للعراق.تلتقي الإستراتيجية الأمريكية لمحاربة الإرهاب مع مصالح النظام السوري حيث يرى الأخير في تحويل ثورة الحرية والكرامة والديمقراطية إلى صراع مذهبي فرصة لإطالة أمد الأزمة لسنين طويلة، يعتقد أنه سيكون الرابح فيها، كما أنه يحاول تشكيل تحالف إقليمي لمواجهة الإرهاب المزعوم وبذلك لن يكون وحيدا في صراعه للبقاء، وطالما استطاع النظام السوري التلطي خلف واجهة محاربة الإرهاب وقدم للولايات المتحدة خدمات جليلة في مواجهة القاعدة، هذه السياسة الدموية المتشابكة ستشكل عبئاً إضافيا على الثورة السورية الناهضة. ليس من المؤكد نجاح تكتيك حافة الهاوية الذي يخطط له النظام السوري كما ليس مؤكد خروجه من الهاوية التي يريد جر سوريا والمنطقة إليها.

كل ذلك يبقى رهين لعبة السياسية الدولية، وصراع المصالح والاستراتيجيات، لكن الثابت الوحيد هو نقاء الثورة السورية من فكر القاعدة التكفيري وسلوكها الذي لا يفرق بين مدنيين وعسكريين ويرى في الموت عقيدة في حين أن الثورة السورية هي ثورة انعتاق وحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى