لغات الحميدية/ راشد عيسى
ما إن تخطو بضع خطوات في سوق الحميدية الدمشقي حتى تجد نفسك في أرض أخرى. كان ذلك عشية اندلاع الثورة السورية حين لفتني أن تجار السوق وصبيانهم، أو من يسمّون بـ “الحوّيصة”، باتوا جميعاً “يترغلون” الفارسية. ما إن دخل ذلك السرب من النساء بالملاءات السود حتى انقلب لسان كل من في المحل. إنها تحوّلات السوق.
منذ سنوات فقط، قبيل اغتيال الرئيس رفيق الحريري كنا نلحظ أيام الأحد أسراب اللبنانيات اللواتي يغزون السوق بشكل خاطف، ثم يختفين. لم تكن اللهجة وحدها دليلنا إليهن، بل وكذلك البطون المكشوفة والتدخين أثناء التجول. كنّ على عجل دائماً، لا وقت لديهن للمبازرة (الفِصال في السعر)، إلى أن جُعلتْ شطارة الزبائن المحليين في المبازرة ضرباً من العبث.
العالم في قلب السوق أوضح بكثير مما هو في الخارج. كما لو أن أحداً ما، أراد أن يعطينا الملخص، فرمى إلينا بهذا السوق. هنا بإمكانك أن تفسر كثيراً من الظواهر خارج السوق، وبإمكانك أن تقرأ تحولات الحياة قبل كل شيء. تسمع لغات شتى، الزمن وحده كفيل بأن تسود واحدة من بينها، وتبيد أخرى. حينما كانت مثلاً الكتيبة الفنلندية هي القوة الأساسية العاملة في قوات الأمم المتحدة على الحدود، استطاع السوق أن يتعلم لغتها وانتعشت حين ذاك تجارة الشرقيات. معظم أصحاب محال الستائر يعرفون لغة أهل قبرص، اليونانية، لأن الحميدية هي سوقهم. ودليلهم إليها بعض أهل حوران الذين استوطنوا قبرص (هذه وحدها حكاية غريبة وتستوجب البحث). على المؤرخين والصحافيين والباحثين أن يأتوا إلى هنا كي يعرفوا لماذا تسود اللغة الروسية في هذا الوقت أو تنحسر الانكليزية التي هي غالباً لغة أهل تجار الشرقيات، التحف والأشياء التراثية.
الفارسية، كانت آخر أيام السوق بامتياز، بحكم الحشود المتدفقة على السياحة الدينية في البلاد. اللغة وذلك السواد العميم المتموّج كانا سادة المكان. إلا أن ذلك لم يمنع من أن يستمر السوق بتجارته السرية، الحميمة إن جاز القول. فالملاءات والأحجبة والجلابيب كانت تتجاور بسلام مع اللانجري الفريد من نوعه في هذا السوق. جاءت سيدتان من أصل عربي تقيمان في لندن وكتبتا مؤلفاً كبيراً مصوراً تحت عنوان “الحياة السرية للملابس الداخلية النسائية”، تستكشفان فيه هذه الصناعة الفريدة في البلاد المختبئة خلف الحجاب.
اضمحلت تلك اللغات واللهجات، واختفت شطارة “الحوّيصة”. اختفى هؤلاء “الأميون” الذين تعلموا في السوق وحده الفارق بين إنكليزية بريطانية، وإنكليزية أميركية، هم الذين لم يكمل واحدهم دراسته الإعدادية، لكنه وصل في اللغات الأجنبية إلى ما لم يصله سواه من الأتراب. كان ذلك عشية الثورة، أو في أسابيعها الأولى. أما تالياً فأي شيء آخر اختفى، بما في ذلك الفارسية. وقلّ الزبائن بعدما برزت مظاهر أخرى اجتاحت السوق، حيث أولى التظاهرات التي خرجت كانت من الجامع الأموي في آخر السوق، أو من سوق الحريقة الملاصق. لا بد أن السوق يعاني الآن من كسل لغوي حاد. فربما غادر أكثر تجاره، وربما سلم بعضهم تجارته إلى من يأتمنونه من الحوّيصة، أو ربما قتل بعضهم، من يدري! لكن السوق مستمر على أي حال. السوق الأكثر ازدحاماً في أقدم عاصمة مأهولة كيف له أن يفرغ.
غداً، في اليوم التالي لسقوط النظام، أول ما ينبغي للكاميرا تسجيله، وكذلك أقلام الصحافيين وبيانات السوسيولوجيين، سيكون ذلك السوق، الذي قد يكون تاريخ المدينة ومستقبلها، سوق الحميدية الذي أتخيله أشبه بنهر، يصفو مرة، ويتعكر مرات، يرمي الأطفال والشعراء قوارب مخيلتهم، ويرمي العابرون فيه أسوأ ما عندهم، لكنه في النهاية ماضٍ في طريقه.