لكنْ أي عودة للدين؟/ رشيد بوطيب *
نلجأ أحياناً إلى استعمال مفاهيم ومصطلحات تنتمي إلى السياق الفكري الأوروبي من دون أن نتساءل عن سياقها التاريخي – الدلالي الذي ظهرت فيه.
هكذا أصبحنا نتحدث في السنوات الأخيرة عن فلسفة الدين، عن عودة الديني، عن المجتمع ما بعد العلماني من دون أن نتساءل عن ايتيولوجيا استعمال هذه المفاهيم في السياق الغربي، وعن جدوى استعمالها في المجال الثقافي العربي، ولا أدل على ذلك من الإفراط في استعمال مفهوم عودة الديني. فعن أي دين وعن أي عودة نتحدث؟ فحتى المفكرون الغربيون حين يستعملون هذا المفهوم يجنحون وفي شكل لاواعٍ إلى التعميم، رغم أن الأمر يتعلق بأكثر من عودة.
فعودة المسيحية الأوروبية إلى المجال العمومي جاءت بعد أن مرت من مطهر الأنوار والإصلاح الديني، وبعد أن عاشت الصدمات المختلفة للحداثة، ولهذا يمكننا القول في هذا السياق إننا أمام عودة متنورة ومتفتحة وأمام دين اختار بعد المجمع الفاتيكاني الثاني اقتسام الحقيقة مع الآخرين. لكن هل يمكننا قول الشيء نفسه عن الإسلام؟ وهل اختفى الإسلام فعلاً حتى نتحدث عن عودته؟ نعم ولا. لم يختف الإسلام عن السياق العربي – الإسلامي، لأنه ظل حاضراً في مجال السياسة والثقافة والمجتمع، لكن حضوره كان ضعيفاً ولم يكن مؤسساً في ظل الاستعمار (وإن جنح إلى استعمال الورقة الدينية، كالزوايا في شمال إفريقيا) وفي المشروع التحرري ومن بعده في الدولة القومية التي أفرزها المشروع التحرري، هذه الـــدولة التي تعاملت بعنف وتطرف مع الحركات الإسلامية وبخست من دور الدين في تشكيل الشخصية المسلمة عبر العصور.
لكن هذا الإسلام الذي انحسر تأثيره مع إبطال نظام الخلافة والاستعمار الذي نظر إليه كسبب لتخلف المسلمين، ومن بعدهما المشروع التحرري والقومي، عاد قبل عقود قليلة إلى الساحة، لكنه عاد من دون أن يعيش تنويراً أو إصلاحاً، بل لم ينله من الحداثة سوى عنفها، لهذا كانت عودته متطرفة وعنيفة.
فالتطرف الديني في المجال العربي – الإسلامي هو نتيجة حتمية لعنف الحداثة، ومن العبث البحث، شأن الثقافويين الغربيين، عن سبب للعنف عند الأئمة الأسلاف. والعقلانية الغربية هي المسؤولة عن اللاعقلانيات التي تحكم الأطراف كما يقول بورديو، لكن هل يعفينا ذلك من المسؤولية؟ ألم نستنسخ ونواصل وما زلنا ذلك العنف؟ أولاً يؤجل مثل هذا العنف تحقيق تلك المصالحة التاريخية بين الدين والحداثة كما هو الحال في السياق الغربي، ومن ثم أيضاً تحقيق مصالحة بين القوى الاجتماعية والسياسية للمجتمعات العربية؟
إن المتتبع للمشهد السياسي العربي اليوم، لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يتحدث عن عودة للديني بالشكل الذي يتم الحديث فيه عن هذه العودة في المجال العمومي الغربي، بل إنه لا يمكنه أن يتحدث إلا عن فكر للعودة، عن مرض الأصل الذي يستشري دائماً في مجتمعات لم تعد تملك ما هو أكثر من ماضيها، أو بالأحرى تلك التي لا يزال ماضيها يمتلكها.
* كاتب مغربي
الحياة