لكنْ حقاً: من هي المعارضة السورية المعتدلة؟/ عمر قدور
فقط عندما يعود الملف السوري إلى الواجهة يعود الحديث إلى المعارضة السورية المعتدلة. قبل نحو سنة، في أثناء مناقشة مجلس الشيوخ الأميركي للضربة المتوقعة رداً على مجزرة الكيماوي، أفاد وزير الخارجية الأميركي بأن 90 في المئة من مقاتلي المعارضة هم من المعتدلين. قبل ذلك وبعده، غلب على وسائل الإعلام الغربية وصف مقاتلي المعارضة بالتطرف أو الإرهاب، ولم يغب التشكيك في اعتدالهم عن تصريحات المسؤولين الغربيين. السؤال الذي لا ينبغي أن يكون كيدياً هو: أين ذهب أولئك المعتدلون الذين تحدث عنهم جون كيري مضيفاً أن لدى إدارته قائمة مفصلة بأسماء المتطرفين؟
الإجابة العقلانية عن السؤال السابق هي ما يمنح مشروع دعم «المعارضة المعتدلة» مصداقيته سورياً، وثمة تفريق ضروري هنا بين ما يبدو صناعة للاعتدال وبين تشجيعه. الخيار الأول، الذي تطرحه الإستراتيجية الأميركية ضد داعش، هو تدريب آلاف المقاتلين الجدد ليقوموا بالمهمة، وهو ينص صراحة على عدم الثقة بالمقاتلين الحاليين، وقد يؤدي ميدانياً إلى حرمانهم من الدعم الضروري لصمودهم أمام قوات النظام، وتالياً تمكين الأخيرة من استعادة السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي. قطع الإمداد عن فصائل تُعدّ متطرفة بالتصنيف الحالي يتطلب الضغط على رعاتها الإقليميين، ومن المعلوم أن أولئك الرعاة مشاركون في الحلف ضد داعش، ومن المعلوم أيضاً أن لهم القدرة على التأثير أيديولوجياً على الفصائل التي يدعمونها، أي دفعها إلى الاعتدال ضمن التوجه المتفق عليه دولياً؛ استخدام كلمة تشجيع هنا أقل من التأثير الفعلي للداعمين.
ثم، ليس مستبعداً أن تستبق الفصائل المستهدفة بالإستراتيجية الجديدة كـ»النصرة وغيرها» المخطط الدولي بابتلاع الكتائب المعتدلة الأضعف في مناطق سيطرتها المشتركة، ما لم يكن هناك دعم قوي وفوري للأخيرة. مثل هذا الاحتمال تحقق عندما تصدى بعض الفصائل لداعش، وخسر معركته أمامه، بل نزف من عناصره لصالح داعش الذي أثبت أنه الأقوى والأقدر على السيطرة، من دون إغفال المزايا الفردية التي يحققها التنظيم الثري لمقاتليه. بمعنى، مطالبة الفصائل إثبات اعتدالها بالتصدي لنظيراتها المتطرفة قد يرجح كفة الأخيرة، لا بحكم عدم توافر النوايا وإنما بحكم القسمة غير العادلة بين الطرفين من حيث الدعم والتمويل، ودفعُ المعتدلين إلى الخسارة على هذا النحو لن يكون عادلاً بالمعنيين الميداني والأخلاقي، إذا افترضنا أن الغاية النهائية هي تشجيع الاعتدال لا توفير العوامل المساعدة على التطرف ومن ثم سحقه.
المعلومات المتداولة عن اختبار «اعتدال» الفصائل واختبار تماسكها التنظيمي، قبل تسليحها وفق مخطط بطيء ومضبوط، لا تنبئ بنتائج مبشّرة على الأرض عطفاً على ميزان القوى السابق، فلا النظام سيقف مكتوف الأيدي تجاه الفصائل المختارة ولا الفصائل المتطرفة ستكتفي بالتفرج. في الواقع، ما إن شاعت تلك المعلومات حتى بدأ استهداف «المعتدلين» من جهتي النظام والمتطرفين، ومن المتوقع ازدياد وتيرة الاستهداف في الأيام المقبلة، وقد لا تخلو هذه التكتيكات من صفقات تتضمن حتى تبادل بعض مواقع السيطرة بين النظام والمجموعات المتطرفة.
قد تبرر البراغماتية السياسية السماح بوجود بؤر تطرف، بغية كشف من لهم قابلية التحول إلى متطرفين والتخلص منهم؛ التحليلات التي تورد هذه الفرضية تفرق بين السياسة والأخلاق مغلّبة اعتبارات الأولى منهما. إلا أن البراغماتية ذاتها هي اللاعب الأقوى في الساحة السورية، خاصة منذ سنة. ومن ذلك أن التطرف والاعتدال، وحركة المد والجزر بينهما، لا يُقاسان بمعايير محض أيديولوجية، بقدر ما يتوجب قياسهما على المتغيرات الدولية والإقليمية، وبقدر ما يتوجب قياسهما أولاً على الرعاية والدعم الدوليين لكل من الاعتدال والتطرف. القول بمخالفة السياسة للأخلاق يقتضي الإقرار بمخالفة الحرب لها على نحو أشد، ومن هنا لا يجوز الزعم بأن نسبة كبيرة من الفصائل المسلحة امتلكت الوازع الأيديولوجي أو الأخلاقي بقدر ما تصرفت وفق مقتضياتها الميدانية والمصلحية.
مقاتلو المعارضة ليسوا أهل اعتدال، وليسوا بالمقدار نفسه أهل تطرف، مع التنويه بأن المعيار المستخدم في التمييز هو إسلامي في المقام الأول. هم مقاتلون ضمن ظروف شديدة القسوة، الحفاظ على وجودهم وإسقاط النظام الذي يستهدفهم أهم من أي ترف أيديولوجي لدى نسبة كبيرة منهم، وحدث في مناسبات عدة أن هجروا كتائبهم المعتدلة إلى كتائب أقوى تسليحاً وبميزات شخصية أعلى تحت ضغط الحاجة، وحدث في مناسبات عدة أن تحولت فصائل كاملة إلى التطرف لتضمن حصتها من التمويل الخارجي. لكن أهم ما حدث هو إقصاء عشرات آلاف الضباط والعناصر المنشقين عن جيش النظام، ووضعهم فيما يشبه الإقامة الجبرية في دول الجوار، بدل تأهيلهم ليكونوا نواة جيش منظم خارج المشاريع الأيديولوجية.
في المعنى الحقيقي للاعتدال، لا توجد معارضة مسلحة معتدلة، الأمر الذي ينطبق إلى حد كبير على المعنى الحقيقي للتطرف، إذ بخلاف القاعدة ومشتقاتها لا يمكن الحديث عن صيرورة من التطرف الغالب على توجهات المعارضة، مثلما يصعب الحديث عن صيرورة من اعتدالها. لقد انتعش التطرف على عاملين واضحين جداً، أولهما ما يُسمى الصراع الشيعي السني في المنطقة، وثانيهما سلة الحوافز الضخمة المقدمة لدعم المتطرفين. وليست هذه المرة الأولى التي يتقدم فيها التطرف ليملأ الفراغ السياسي في بلد انهار نظامه السياسي، وبقي بلا تظهير للبديل. من دون أخذ مجمل الظروف في الحسبان، وخاصة انعدام أفق الحسم في سورية، يصعب التكهن بتبلور معارضة سياسية وعسكرية معتدلة بجناحيها، والأهم أن تكون قادرة على بسط سيطرتها على الأرض. اصطناع الاعتدال فقط من أجل الحرب على داعش والقاعدة لا يقدّم حافزاً سياسياً أو أخلاقياً كافياً، وإذ يأتي في وقت فقدت فيه المعارضة السياسية والعسكرية رصيدها الأكبر من المصداقية المحلية فهو لن يمنحها جرعة كافية من الحياة، ما دامت المساعدة المالية المخصصة للاعتدال السوري أقل من الرصيد المالي لداعش وحده، وما دامت المعارضة السورية شبيهة بالضربات الأميركية الجوية من حيث افتقارها إلى ركائز راسخة على الأرض.
الحياة