لكنْ ما هو المجتمع المدنيّ؟/ ياسمين ابراهيم
في العقدين الأخيرين، ولا سيّما في السنوات القليلة الماضية، بات مصطلح – مفهوم “المجتمع المدنيّ”، في العالم العربيّ، على كلّ شفة ولسان. لكنّ الكلام عن ذاك الجسد الضخم الموازي للدولة لم يكن دائماً على الدقّة التي يستدعيها التعبير. وربّما تدخّلت اللغة وفوارقها لتزيد الالتباس وسوء الاستخدام: ففي الإنكليزيّة نجد كلمتين متمايزتين تُترجمان بتعبير واحد (“مدنيّ”) في اللغة العربيّة. إنّهما CIVIL وCIVILIAN. الأولى هي التي تحمل دلالة اجتماعيّة ومواطنيّة واسعة فيما لا تقصد الثانية إلاّ التمييز عن العسكريّ.
على أيّة حال، فتعبير “المجتمع المدنيّ” قديم ومألوف في الفكر السياسيّ الأوروبيّ منذ القرن الثامن عشر. وهو، في استخدامه التقليديّ ذاك، بدا أقرب إلى ترجمة حرفيّة للمصطلح الرومانيّ SOCIETAS CIVILISومن ورائه المصطلح اليونانيّ القديم لأرسطو KOINONIA POLITIKE’، أي أنّه كان مرادفاً لـ “المجتمع السياسيّ”. وحين تحدّث جون لوك عن “الحكومة المدنيّة”، أو عمانوئيل كانط، بالعاميّة الألمانيّة، عن BURGERLICHE GESELLSCHAFT، أو جان جاك روسّو عن “الدولة المدنيّة”، فكلّهم عنوا الدولة بوصفها الكائن الذي يضمّ (كما كانت حال المدينة اليونانيّة القديمة، البولِس) كافّة نطاق المجال السياسيّ. فالمجتمع المدنيّ هو، إذاً، الحلبة التي ينشط فيها المواطن الفاعل سياسيّاً، وهو أيضاً يُلمح إلى “المجتمع المتمدّن”، أي ذاك الذي ينظّم علاقاته وفقاً لعدد من القوانين بدل الرغبة المزاجيّة للحاكم المستبدّ.
وفي الاستخدام، كانت ماثلةً على الدوام تلك العلاقة بين “المواطنة” CITIZENSHIP و”المجتمع المدنيّ” (وهو ما تعكسه في اللغات الأوروبيّة القرابة اللغويّة التي تفتقر إليها لغتنا). فالعلاقة المذكورة هي التي تفسّر أحد أسباب انبعاث المفهوم وجاذبيّته لاحقاً. إلاّ أنّ التحوّل الحاسم هنا هو ما سجّله النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ألا وهو كسر التعادل التاريخيّ بين المجتمع المدنيّ والدولة. وفي هذا التحوّل كان الفكر الاجتماعيّ البريطانيّ بالغ التأثير. ففي كتابات جون لوك وتوم باين وأدم سميث وأدم فيرغِسّون، وُسّعت الفكرة القائلة بوجود حيّز من المجتمع يتميّز عن الدولة وتكون له أشكال وقواعد يستقلّ بها. وكان لنشأة علم الاقتصاد السياسيّ الحديث، وهو إلى حدّ بعيد إنجاز بريطانيّ، دور مهمّ في هذا التميّز. صحيح أنّ معظم أولئك الكتّاب مضوا يستخدمون التعبير بمعناه الكلاسيكيّ، كما في عمل فيرغِسّون “مقالة في تاريخ المجتمع المدنيّ” (1767)، لكنّ ما فعلوه كان، فعليّاً، أقرب إلى إقامة التمييز التحليليّ الذي ما لبث أن غيّر معنى المفهوم برمّته.
هذا المعنى الحديث لـ “المجتمع المدنيّ” ارتبط خصوصاً باسم الفيلسوف الألمانيّ جورج هيغل. ففي “فلسفة الحقّ” (1821) يبدو المجتمع المدنيّ حيّز الحياة الأخلاقيّة حيث تتقاطع العائلة والدولة. وجرياً على ما فعله الاقتصاديّون البريطانيّون، رأى هيغل أنّ ما يقرّر مضمون المجتمع المدنيّ هو الحركة الحرّة للقوى الاقتصاديّة وسعي الأفراد إلى تحقيق ذواتهم. غير أنّ المجتمع المدنيّ اشتمل أيضاً على المؤسّسات الاجتماعيّة والمدنيّة التي تنظّم الحياة الاقتصاديّة وتضبطها بما يقود، عبر عمليّة تعليم يستحيل تجنّبها، إلى الدولة العقلانيّة. هكذا تنتقل خصوصيّة المجتمع المدنيّ صعوداً إلى كونيّة الدولة.
وقد عمل كارل ماركس، الذي أقرّ بدَين هيغل عليه، على تضييق مفهوم المجتمع المدنيّ بما يجعله مساوياً للحيّز المستقلّ الذي تشغله الملكيّة الخاصّة وعلاقات السوق. ذاك أنّ “استقلاليّة المجتمع المدنيّ هي ما ينبغي البحث عنه في الاقتصاد السياسيّ”، وكان لهذا التضييق أن هدّد صلاح المفهوم للاستخدام الأوسع، إذ ما الحاجة إليه ما دام الاقتصاد (و”المجتمع” بهذا المعنى الاقتصاديّ) هو مادّة المعنى وأساسه؟ هكذا استغنى ماركس، في كتاباته المتأخّرة، عن هذا المفهوم مفضّلاً الثنائيّة البسيطة: مجتمع – دولة. كذلك وجد كتّاب آخرون، لا يقتصرون على المتأثّرين بماركس، أنّ مفهوم المجتمع المدنيّ قليل الفائدة أو عديمها. فعند أليكس دو توكفيل في “الديمقراطيّة في أميركا” (1835 – 1840)، استعاد مفهومُ “المجتمع السياسيّ” المعاني الأبكر للمجتمع المدنيّ بوصفه تعليماً لخدمة المواطَنة. وبالفعل ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر تراجع كثيراً استخدام المصطلح كائناً ما كانت دلالته.
في القرن العشرين، وعلى يد الماركسيّ الإيطاليّ أنطونيو غرامشي، في كتاباته التي جُمعت تحت عنوان “دفاتر السجن” (1929 – 35)، أعيد الاعتبار للمصطلح – المفهوم. فغرامشي، مع احتفاظه بأساسيّات التوجّه الماركسيّ، عاد إلى هيغل كي يبعث المفهوم إلى الحياة. لا بل ذهب أبعد من هيغل في فصل المجتمع المدنيّ عن الاقتصاد وربطه بالدولة. فهو ذاك الجزء من الدولة الذي لا يُعنى بوظائف القسر (القمع) والحكم الشكليّ، بل بصنع التوافق والتقبّل (CONSENT). إنّه يعمل في حيّز “السياسة الثقافيّة” بالتالي. أمّا مؤسّسات المجتمع المدنيّ (في مجتمع أوروبيّ ومسيحيّ كالإيطاليّ) فهي الكنائس والمدارس والنقابات ومنظّمات وروابط (وأفكار) أخرى من خلالها تمارس الطبقة الحاكمة “الهيمنة” على المجتمع. وبالمعيار نفسه تتيح تلك المؤسّسات تحدّي هذه الهيمنة وتغييرها. والحال أنّه في العقدين الراديكاليّين للستينات والسبعينات، وجد الفهم الغرامشيّ هذا للمجتمع المدنيّ أوسع الاستقبال لدى أولئك الذين حاولوا معارضة البُنى الحاكمة للمجتمع، لا عبر المواجهة السياسيّة المباشرة، بل من خلال شنّ نوع من حرب ثقافيّة. ذاك أنّ الثقافة والتعليم هما حيث يمكن هزّ الهيمنة وإضعافها وإنهاؤها.
كذلك رفدت المفهومَ تلك التغيّراتُ السريعة والعاصفة التي عرفتها أوروبا الوسطى والشرقيّة أواخر السبعينات وفي الثمانينات. فالمنشقّون لجأوا إلى مفهوم المجتمع المدنيّ كسلاح في مواجهة النظام التوتاليتاريّ وقبضه على جوانب الحياة كافّة. وكانت تجربة “حركة التضامن” في بولندا قد اقترحت نموذجاً للمعارضة ولإعادة تحريك المجتمع وإنهاضه يتجنّب المواجهة الانتحاريّة مع الدولة فيما يبني مؤسّسات المجتمع المدنيّ بوصفها “مجتمعاً موازياً”. ولاحقاً، كان لانتصار الثورات التي انفجرت في 1989، أن وفّرت للمفهوم هذا مصداقيّة كبرى وتقبّلاً واسعاً. يكفي أنّه بات يعني، في نظر الكثيرين من المثقّفين، الوعد بطريق آمنة إلى ما بعد الشيوعيّة، حيث يقوم مجتمع تعدّديّ ويستقرّ.
وفي الحدّ الأدنى، وعلى خلافات في التفاصيل هنا وهناك، بات قريباً من المسلّمات اعتبار أنّ الاشتراك في مواطنيّة فاعلة يستدعي الاندراج في تنظيمات غير حكوميّة، هي تنظيمات المجتمع المدنيّ، بقدر لا يقلّ عن الاندراج في التنظيمات الحكوميّة. وهذا بعض ما أراد أن يثبته مبكراً توكفيل في ما خصّ الديمقراطيّة في الولايات المتّحدة، وهو الدرس الذي يحاول العالم بأسره أن يتعلّمه اليوم. فقد بات هذا المفهوم، خصوصاً عبر التأويل الأميركيّ الذي تعتمده المنظّمات غير الحكوميّة، يمتدّ من شبكات المساعدة للمحتاجين في كلّ بلد إلى المنظّمات الدوليّة العابرة للحدود. والتعريف هذا، بما فيه من مطاطيّة، يتسبّب بالتأكيد في مفاقمة الأخطاء الاستعماليّة، وإن دلّ إلى حيويّة تمتلكها عادةً المفاهيم غير المكتملة والمحكومة بأن لا تكتمل.
درج