صفحات الرأي

لكنْ من الذي يحكم العالم؟/ إبراهيم غرايبة

 

 

جاء الكتاب السنوي «أوضاع العالم» (الذي نشرته «مؤسسة الفكر العربي» بترجمة نصير مروة)، هذا العام، بعنوان «من يحكم العالم». ربما كان ذلك استجابة للتحولات الكبرى في أوضاع العالم، فهذا العالم الجديد كما يقول آندري غراتشيف، يبحث عن نفسه، ويحاول تحديد ذاته، وإيجاد تعريف لها، وعلى رغم أن الكتاب يتخذ طابعاً عالمياً في الرؤية والتحليل فإنه يظل حكماً يعكس تفكير النخبة الفكرية الفرنسية ورؤيتها للعالم، وربما لم تكن مصادفة أن الفرنسيين انتخبوا مؤخراً مانويل ماكرون، معبرين عن القلق تجاه اليمين واليسار معاً، ومنحازين لما يمكن تسميته «الطريق الثالث» بما هو مجموعة من الأفكار والرؤى والفلسفات ذات الطابع التجريبي والتقويم والمراجعة، أكثر مما هو فلسفة كبرى واضحة ومستقرة يمكن أن تأخذ مكانها إلى جانب الرأسمالية والاشتراكية اللتين سادتا عالم الصناعة وأعادتا صياغة الدول والمجتمعات والأفراد والأفكار والمؤسسات والعلاقات في ثورة هائلة غير مسبوقة.

لكن ربما يدخل/دخل العالم اليوم في مرحلة جديدة لم تعد تصلح لها الرأسمالية ولا الاشتراكية، وفي ذلك فإن الكتاب يلاحظ الأزمة في تشكيل وأداء ومصير النخب والمؤسسات التي حكمت/ تحكم العالم، مثل الدولة الحديثة وطبقة الحكم، والجيوش والمؤسسات العسكرية، والمنظمات والشركات الدولية، والمؤسسات الدينية والعائلية، وشبكات الإعلام والاتصالات والنقل، وجماعات التأثير والأحزاب السياسية والمنظمات السياسية العلنية والخفية، ومجموعات التمويل والتجارة والصناعة، والعولمة وشبكاتها ووعودها وتحدياتها.

يستعيد الكتاب أواليات السلطة الواحدة بعد الأخرى من خلال ملاحظة خمسة من معالم النظام العالمي: التقاليد السائدة والمتبعة والقدسي والديني والدولة والاقتصاد والعولمة. وربما يكون الإرهاب واحداً من التجليات التي أظهرتها التحديات الجديدة. وعلى رغم أن السلطة ما زالت كما يقول برتران بادي في القلب من كل تساؤلات العلم السياسي وفي مركزها، لكنها تسير اليوم أو تتشكل وفق مدخلات جديدة إلى جانب القسر والهيمنة، مثل القوة الناعمة والقوة الذكية، والتشارك مع الفضاء العالمي، والتعامل الواقعي مع صعود الفرد وقدرته على التحرر من قسر الدولة وفرصه الجديدة في العمل والتواصل وتخطي الهيمنة والرقابة.

ومع أن الدولة الحديثة التي تشكلت مصاحبة للثورة الصناعية بدت ثورة على هيمنة العائلات والسلالات الحاكمة والمؤثرة، فقد ظلت الروابط القرابية والعائلية كما يلاحظ إيف شميّل مؤثرة في الحكم في أنحاء كثيرة في العالم، كما ظلت أيضاً مؤثرة في عالم المجتمعات والتجارة والمافيات والأوليغاركيات متحدية التحديث، ولعلها بذلك مرشحة لمواصلة وتجديد تأثيرها في فضاء الشبكية والعولمة. والأمر نفسه ينطبق على الدين الذي ظل يقود مسيرة العالم على مدى القرون، وليتبين أن السؤال في عالم الصناعة عن موت الإله كان ساذجاً، فقد عادت الأديان أكثر قوة وتأثيراً في السياسة والمجتمعات والأفراد، لكنها مقولة مضللة أيضاً، فقد تبدلت المؤسسات الدينية كثيراً، وتغير دورها، وانحسر في مجالات كثيرة، وأتاحت الشبكة المجال واسعاً للجماعات والأفراد المشاركة الدينية متخطية القيادات والمؤسسات والقيادات الدينية التقليدية، وصارت الشبكات الدينية أداة احتجاج ومناهضة أكثر مما هي أداة تنظيم للمجتمعات والأفراد وهيمنة عليها، وعاد أقوى من قبل السؤال عن العلاقة بين الدين والسياسة؟

تقول دلفين آليس مستشهدة بأوليفيه روا إن استقلالية الديني هي ما يجعل منه أداة احتجاج جبارة، وعندما يتحول إلى جزء من السلطة والسياسة يفقد دعوى النقاء المؤسسة لمشروعيته، وهذا التناقض المربك لا مخرج له ولا مخرج منه، إذ يفقد الديني حين يكون في السلطة قيمته كملاذ للمحبطين ومأوى لمن خاب أملهم بالنظام المسيطر.

وصعدت «القوة الناعمة» كأداة مؤثرة تستخدمها الدول الكبرى والمؤثرة كما بعض الشركات لبناء التعاون والنفوذ والعلاقات، والعمل على اكتساب الدول والمجتمعات باتجاه مصالحها ومواقفها، ويمكن القول أيضاً إنها برامج ومشروعات للتضامن والصداقة العالمية بخاصة مع الدول والمجتمعات الفقيرة، ثم صارت مؤشراً الى قوة الدول وتأثيرها يستدل عليه بالجامعات والتعليم والإنفاق الخارجي للاستثمار والتعاون والثقافة والفنون والرياضة والإغاثة والتنمية.

وتأخذ الشبكة العالمية مكانة مهمة وواسعة في التأثير والعمل، فإلى جانب الشركات والمنظمات الدولية تنهض شبكات أخرى ديبلوماسية واجتماعية وإعلامية وإغاثية وفكرية وطبية، كما تتشكل أيضاً مفاهيم وثقافة عالمية مثل قضايا حقوق الإنسان والبيئة والمرأة والتغير المناخي، ويقابلها أيضاً شبكات الإرهاب والمافيات والمخدرات والجريمة.

وفي ظل هذه التحولات وما صحبها من قيم ومساواة وفرض جديدة، تتساءل جول فالكيه: هل يظل الرجل مسيطراً على العالم؟ ولا شك في أن حظوظ المرأة المتصاعدة في التعليم والعمل والتأثير تجعل العالم القادم معرضاً لإعادة التقسيم والتأثير بين الذكور والإناث.

وتظل الطاقة محركاً رئيسياً للعالم المعاصر، لكنها تشهد تغيرات مهمة مع تطور تكنولوجيا الطاقة المتجددة المستمدة من الشمس والرياح ومصادر أخرى، وصناعة الآلات بخاصة السيارات الكهربائية أو الهجينة. إن الانتقال في الطاقة لم يبدأ بعد، والنفط والغاز والفحم لا تزال تشكل 80 في المائة من الطاقة المستهلكة في العالم، وينطبق الأمر نفسه على قطاع النقل الذي يمثل الشريان الرئيسي والحيوي للعالم المعاصر بما فيه من صناعة السيارات والطائرات والسفن والقطارات والطرق والموانئ والمطارات.

وفي مجال التأثير الاقتصادي، شكل الدّيْن عبئاً هائلاً على كثير من الدول واقتصادياتها وسياساتها، لدرجة وصفه داميان ميليه وإريك توسان بأنه شكل جديد من الاستعمار، وفي الأزمة المالية الكبرى التي اندلعت بين عامي 2007 – 2008 طرد أكثر من 14 مليون أسرة من منازلها لأنها عجزت عن سداد ديونها للبنوك، وتشكل ديون طلاب الجامعات في الولايات المتحدة اكثر من ألف بليون دولار، ومن دلهي إلى أثينا إلى الحرم الجامعي الأميركي إلى شوارع باماكو يقيم الدّيْن نظاماً اقتصادياً للدائنين، الذين يفلحون في الاستيلاء على جانب كبير من الثروة التي ينتجها الأهالي، وليس سوى التعبئة الجماهيرية حول مطالب قوية وواضحة تستطيع أن تحدث تغييراً حقيقياً مستداماً باتجاه قيام مجتمع أكثر مساواة، ويحترم الطبيعة والحقوق الأساسية للبشر كافة.

وفي هيمنة الشركات وتحديها للدول والمجتمعات تظهر في عصر الشبكية شركات وأنماط جديدة مثل غوغل وفايسبوك وأمازون وأبل وميكروسوفت والتي صارت قادرة على فهم كل فرد وتحليله شخصياً في اتجاهاته وعاداته وسلوكه على نحو يفوق أي سلطة أمنية أو سياسية، وفي التحالف بين الأنظمة السياسية والشركات تعجز المجتمعات عن حماية مصالحها وتحقيق أهدافها، لكن يظل الأمل قائماً في المجتمعات المدنية والشبكية الاجتماعية لأجل وضع الشركات أمام مسؤولياتها أو في كبح طموحاتها الضارة.

* كاتب أردني

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى