لكن أين قبر عزيز نيسين؟/ بلال فضل
(5)
أوصى عزيز نيسين، قبل رحيله، رفاقه وتلاميذه، بأن يدفنوه داخل الوقف، لكي يكون قريبا دائما من الأطفال الذين يسكنون فيه، لكنه، في الوقت نفسه، أوصى بألا يدفنوه في قبر معروف المكان، له شاهد أو ما إلى ذلك، لكي لا يخيف وجوده الأطفال، ويذكّرهم بالموت، وهم أحوج ما يكونون إلى تذكّر الحياة دائما وأبداً. ولذلك، عندما مات عام 1995، تم إحضار “تُرَبي” من خارج المنطقة، وتم إخلاء الوقف كله، ولم يحضر دفنه إلا صديقه الذي رأيناه، وهو الوحيد الذي يعرف مكان دفنه. تأثرت بإنسانية هذا الأديب العظيم، ورقّته التي تنضح بها لفتة بسيطة كهذه، قلت لصديقه مداعباً: يعني لا يمكن أن تتنازل عن هذا السر لأحدٍ قادم من قارة أخرى، كي يزور قبره، ويقرأ له الفاتحة؟ قال لي ضاحكا إن عزيز نيسين أوصى من يريد أن يزور قبره بأن يقف، عوضاً عن ذلك، على آلته الكاتبة التي قضى عليها وقتاً أطول من الذي قضاه في قبره، فقرأنا الفاتحة على الآلتين الكاتبتين، واحدة تلو الأخرى، وبدأنا نفك طلاسم المكان، ونتعرف عليه أكثر.
أما عن المعطف الأبيض ذي البقع، فقد كان، يا سيدي، المعطف الذي ارتداه عزيز نيسين، فور وصوله إلى المستشفى، بعد محاولة اغتيال تعرّض لها من متطرفين إسلاميين أتراك مطلع التسعينات، قبل سنين من رحيله. كان شديد الاعتزاز ببقع الدم التي سالت على المعطف، لأنه كان يراها الثمن الذي يجب أن يدفعه أي كاتب. ومن يقرأ لعزيز نيسين، يعرف أنه لم يكن كاتباً مشغولا بالمجاهرة بالإلحاد، أو مسخّرا قلمه ضد الإسلام، دين الغالبية الساحقة من الأتراك، وإن كان قد سخر كثيراً من نفاق المتديّنين، ومن السعي إلى ربط الإسلام بالجهل، والوقوف ضد العلم والحرية، فقد كانت تشغله، طول الوقت، هموم سياسية واقتصادية واجتماعية أهم، لكن السبب الرئيسي في اغتياله كان دفاعه المستميت عن حرية الكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي، إثر تكفير الخميني له، وإصداره فتوى بإهدار دمه عقب إصداره روايته (آيات شيطانية). كان رشدي صديقا حميما لعزيز، يبدو ذلك من الصور المعلقة لهما، بصحبة عدد آخر من الأدباء، من بينهم ماركيز بجلالة قدره. وفيما لم ينزف سلمان رشدي قطرة دم واحدة بسبب ما كتبه، لأنه عاش حياته متخفّياً، فقد كاد عزيز نيسين يفقد حياته ثمنا لدفاعه عن حرية الإبداع.
أعلم أن هذا الموقف سيجلب له عداوة بعض من يقرأ الآن ممّن لن يكلّف نفسه عناء فهم موقف عزيز نيسين في الدفاع عن كاتب كسلمان رشدي، وهو الموقف الذي كان يجب أن يكون موقفنا جميعا كعرب ومسلمين إبان هوجة (آيات شيطانية) التي لم تجلب لنا شيئا سوى وصمنا بعار أننا أمة تقف ضد كاتب أعزل لا يمتلك إلا قلمه، مع أنه كان ينبغي أن نؤمن أن ديننا أكبر بكثير من أن تهزّه رواية أو رسوم أو أفلام أو قصائد، خصوصاً وقد أدى هجومنا على سلمان رشدي إلى ارتفاع مبيعاته إلى مئات الآلاف من النسخ، منذ موقف الخميني ضده. وأوقن أننا لو كنا قد تركناه يمضي بما كتب، لما صوّرنا أنفسنا للعالم بتلك الصورة المزرية، بوصفنا أناسا نقتل من يتطاول على مقدساتنا، مع أن ديننا لا يأمر بذلك أبداً، بل على العكس يكفل حرية من يكفر به، تماما كما يكفل حرية من يؤمن به. والغريب أننا، منذ أن افتتحنا بسلمان رشدي مسلسل هوجات الغضب على من يتطاول على مقدساتنا، لم يتطور حالنا قيد أنملة، ولم نقترب من ديننا قدر ما ابتعدنا عنه، ولم نزدد إلا تخلّفاً وفقراً وجهالة، ما يعني أن غضبنا على ديننا إما أنه لم يكن صادقاً، بل جاء لتغطية عوراتنا الحقيقية، أو أنه، في أحسن الأحوال، كان صادقاً، لكنه لم يكن في مكانه الصحيح.
“للأسف، لم يترجم كل ما كتبه عزيز نيسين إلى العربية، ربما ما ترجم من كتبه الشرعية أقل من النصف”
على أية حال، كنت أظن أن هوس عزيز نيسين بالاقتناء والتجميع توقف عند حدود العملات النقدية والورقية لمختلف بلاد العالم التي زارها في حياته المديدة، وهي هواية يمكن أن تجد كثيرين يدمنونها، لكنني اكتشفت، عند صعودي إلى الدور العلوي من متحفه، أنه من الصعب أن تجد مهووساً بالاقتناء، مثل عزيز نيسين، لا يكتفي بالعملات والطوابع فقط، بل إنه قام بتحويل الدور العلوي من متحفه إلى عدة متاحف في دور واحد، ففي ركن من الدور، جمع لوحات لعدد من أهم الرسامين الأتراك وأقدمهم. وفي ركن آخر، جمع كل برادات الشاي ـ جمع براد ـ التي شرب فيها الشاي طوال عمره، والتي ستكتشف، وأنت تطالع تنوّع أشكالها وأحجامها وألوانها، أنك أمام متحف فريد من نوعه، يليق بشارب شاي محترف، مثل عزيز نيسين، لم يترك براد شاي شرب فيه إلا اصطحبه معه، سواء كان براد شاي، رافقه في السجون المتعددة التي قضى فيها فترات من عمره، أو رافقه في المنفى كذلك البراد الضخم الذي قيل لنا إنه اشتراه خلال نفيه إلى الاتحاد السوفييتي، وأنه كان يصنع فيه كميات كبيرة من الشاي، لتدفئه من برد روسيا الزمهرير.
في جزء آخر من المبنى، تم جمع كل الصحف التي شارك عزيز نيسين في الكتابة فيها، ولم أكن أعلم أنها بهذه الضخامة، بحيث ملأت غرفة كاملة، فيها أكثر من خمسين دولاباً، ملئت عن آخرها بالصحف والمجلات. هنا قال لنا صديقه الحميم إن أغلب ما كتبه عزيز نيسين لم يجمع بعد في كتب، وأنهم ينتظرون اليوم الذي يأتي فيه باحثون متفرغون لجمع كل ما تضمه سطور هذه الصحف والمجلات، والتي تضم مواد كثيرة، نشر فيها عزيز مقالات وقصص له بأسماء مستعارة في فترات منعه من الكتابة.
(6)
على جدران مبنى الوقف، وبين كل متحف صغير والآخر، كانت هناك صور لعزيز نيسين مع زوجته وأولاده. تزوج مرتين، قلت لصديقه القديم، وأنا أنظر إلى صورة لعزيز مع زوجته وابنه علي: “أعتقد أن زوجته لا تحبه أبداً”، اندهش الرجل بعد ترجمة ما قلته، وسألني “كيف عرفت؟”، لم أرد أن أقول له إن مشاعر الكراهية تنضح من عيني الست في صورها التي التقطتها بصحبته، فقلت له “أعرف كتّاباً كثيرين تكرههم زوجاتهم”. نظر إلى زوجتي، فقلت له ” أقصد كتّاباً غيري”. وضحكنا من قلوبنا، قبل أن يقول لي الشاب الذي تولّى مهمة الترجمة لنا، وهو يخفض صوته، لكي لا يسمعه رفيق عزيز نيسين، إن زوجة عزيز، وأغلب أقاربه، باستثناء علي، لا يحبونه لأسباب كثيرة، من أهمها أنه قرر أن يتبرّع بأغلب عوائد كتبه، يوم أن كان الأكثر مبيعاً في مصر، لكي ينشئ وقفه المخصص للأيتام ومجهولي النسب. قلت له “لا داعي لأن تقول لي باقي الأسباب، فيمكن اكتشافها بسهولة من كتبه.. كاتب قضى عمراً بين السجون والمنافي، لأنه قرّر أن يعيش الحياة كما يريدها هو، لا كما يريد الآخرون، وألا يسكت قلمه ولو لحظة، فأتعبه قلمه، وأتعب من معه”. هز صديقنا رأسه، معبّراً لي عن أنه كان يتمنى أن يكون عزيز نيسين حياً، لكي يرى كيف وصل أدبه إلى ما هو أبعد من تركيا بكثير.
كنا قد وصلنا إلى نهاية الدور العلوي الذي وضع فيه عزيز نيسين متحفاً يعبّر عن جزء آخر من شخصيته، متحفاً لجميع زجاجات الخمور الموجودة في العالم، على اختلاف أنواعها وأشكالها وأحجامها، أحضرها من كل بلاد العالم، من روسيا إلى الأرجنتين، ومن أفريقيا إلى الصين. قالت لي زوجتي ضاحكة: من دمائه التي سالت بسبب سلمان رشدي إلى متحف زجاجات الخمور، يبدو أنك، وقد قررت أن تنصف الرجل، ستدمّر سمعته في العالم العربي، بما كتبته عن الرجل. ضحكت وأنا أقول لها “لست مستعداً لأن أقول إنني وجدت لدى الرجل متحفاً لسجادات الصلاة والسبَح لكي أحبّب الناس فيه، فالذي يحب الرجل سيحبه من خلال أدبه وكفى”، لكن كلامها اتضح، في ما بعد، أنه حقيقي بشكل مؤسف، فنحن نعيش في أيام ليس لدى أحد فيها استعداد لكي يعرف أنه يمكن أن أعجب بتراث أدبي تركه كاتب، من دون أن أكون مضطرا لقبول معتقداته وأخلاقه، فضلا عن محاكمة معتقداته وأخلاقه والحكم عليه من خلالها، اكتشفت ذلك، في ما بعد، للأسف، عندما دخلت إلى أكثر من موقع إنترنت عربي، كتب عن الرجل، ودائما ما كنت أجد في التعليقات إشارات ساخطة إلى موقفه المتضامن مع سلمان رشدي، من دون أن يفكر أحد في دوافع هذا الموقف، ولا في إمكانية أن يختلف أناس آخرون معنا في الرأي، فنتفهّم اختلافهم، ونحتفظ باحترامنا إبداعهم.
سألت عن المكان الذي يمكن أن ألتقي فيه بعلي، الابن الأكبر لعزيز ووكيل ورثته، لكي نناقش تفاصيل المشروع الذي كنت ولا زلت أحلم به، وهو تحويل إحدى روايات الكاتب الكبير إلى مسلسل تلفزيوني، فأعطوني العنوان، وعرفت منهم أنه الوحيد الذي ورث عن والده عشق الكتابة. سألت شغوفاً عن كتبه، وهل ترجمت إلى غير التركية، فضحك الشاب، وقال لي إنها لن تترجم أبدا، عندما سألت عن السر، قال لي ببساطة إنه يكتب كتب “تسالي” من التي تختلط فيها الكلمات المتقاطعة بالألغاز الحسابية التي تساعد طلبة المدارس على إتقان الرياضيات. ضحكت، وقلت له: من كثرة ما قرأته من كتب لعزيز نيسين، أستطيع أن أدرك أنه لم يترك شيئاً لكي يكتبه أولاده من بعده.
عند محطة الحديث عن روايات عزيز نيسين التي أفضتُ في ذكر ما أعجبني منها، انتبه صديق عزيز ورفيقه إلى كلامي، ليقترب مني ويسألني بجدية عن عدد الكتب التي قرأتها له، ولم يصدق عندما قلت له إن عددها يقارب الخمسة والخمسين، أشار لي إلى الكتاب الوحيد بالعربية الموجود في المكان، وقال لي إنه الوحيد الذي حصل على ترخيص بالنشر من الورثة. توتر الجو قليلا، ثم توتر أكثر، عندما عاد ليطلب مني أن أعطيه أسماء دور النشر التي صدرت عنها الكتب، تصنّعت ضعف الذاكرة، لكي لا أوقع أصحاب تلك الدور في مشكلات، فقد كنت مدينا لهم بما قرأته للرجل، وهو دين كانوا يستحقون أن أتواطأ معهم من أجله، ولو مؤقتا. أفتح قوسا هنا لأقول إنني في زيارة تالية لدمشق (فك الله كربتها)، في عام 2006، التقيت بصاحب دار الأهالي للنشر (أصبح اسمها دار الوطنية الجديدة للنشر)، والذي كان أول من نشر كتباً مترجمة لعزيز نيسين، كما أنه أكثر من أصدر له كتباً مترجمة أيضا، فنقلت له مداعبا ما دار بيني وبين ورثة عزيز نيسين، ففاجأني بقوله إن نيسين، عندما زار دمشق في منتصف الثمانينات، أعطاهم إذنا كتابيا بترجمة كتبه إلى العربية، ونشرها حبا منه للقارئ العربي، وقال لي إنه يحتفظ بهذا الإذن لديه، وعندما سألته عن الحقوق التي يستحقها ورثته، قال لي آسفا إن عزيز نيسين لم يعد موضة كما كان في السابق، ولم تعد كتبه تبيع بالقدر نفسه، ربما لأنه شبه مجهول في أسواق واسعة للكتاب، مثل مصر ودول الخليج العربي والمغرب العربي، وربما لأن سوق القراءة المحدود، بحكم عدد السكان في سورية ولبنان، قد تشبّع من كتبه، كما شكا لي من مترجمين لم يعودوا يهتمون حتى بتصحيح كتب الرجل بعد ترجمتها، ووجدوا أصحاب دور نشر جديدة، ينشرون لهم كل ما يحمل اسم الرجل حتى لو كان مكرّرا أو سيئ الترجمة.
“على الرغم من أن المترجمين والناشرين السوريين لعبوا دوراً عظيماً في تعريف القارئ العربي بعزيز نيسين وأدبه، إلا أن بعضهم تعاملوا معه بمنطق تجاري بحت، من دون ترجمته بذمة وضمير، فجاءت بعض كتبه سيئة الترجمة، ونفّرت منه القارئ العربي”
(7)
للأسف، لم يترجم كل ما كتبه عزيز نيسين إلى العربية، ربما ما ترجم من كتبه الشرعية أقل من النصف، فخلال السنوات العشر الماضية، جمعت له، من مكتبات سورية ولبنان والأردن ومصر، ما يقترب من الخمسة والخمسين كتابا فقط، بعضها للأسف فيه قصص مكررة في أكثر من كتاب، أحياناً لأن أكثر من مترجم ترجم له القصة نفسها، وأصدرها في كتاب مختلف، وأحياناً لأن بعض الناشرين يتواطأ مع المترجم بحيلة لخداع القارئ، بإصدار العمل نفسه، في كتاب مختلف بعنوان آخر. على سبيل المثال، رواية “ملك الكرة” التي صدرت منذ أشهر بعنوان آخر هو “دعها إنها راشدة”، للمترجم الذي ترجمها في المرة الأولى، وهو سوري اسمه هاشم حمادي. وبالمناسبة حتى الآن كل من نشروا كتبا لعزيز نيسين بالعربية أو ترجموه إلى العربية هم سوريون، من أبرزهم أحمد الإبراهيم وجمال دورمش ومحمد مولود فاقي وعبد القادر عبد اللي وهاشم حمادي وفيصل نور وفاروق مصطفى وبكر صدقي والمخرج السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد. وليس غريبا ذلك الانفراد السوري بترجمة عزيز نيسين، وغيره من أدباء تركيا الكبار، أمثال يشار كمال وأورهان باموق وناظم حكمت ومظفر أوزغو ونديم جورسيل وفقير بايقورت، فبين تركيا وسورية روابط ثقافية وسياسية وتاريخية متينة ومعقدة، وملتبسة في الوقت نفسه، لست الأقدر على شرحها، لكنني فقط أشير إلى ملاحظة لمستها في زيارتي تركيا، هي انتشار التحدث باللغة العربية بلهجتها الشامية بين أبناء جنوب غربي تركيا، والذين لاحظت أن أغلبهم يعمل في المدن التركية الكبرى في المطاعم والمقاهي، حيث تتم الاستعانة بهم، لجذب السياح العرب الذين أصبحت تركيا في السنين الماضية بالنسبة لهم أكبر مناطق الجذب السياحي لأسباب متعددة، تتنوّع بين الطبيعة الخلابة والفساد المبذول.
وعلى الرغم من أن المترجمين والناشرين السوريين لعبوا دوراً عظيماً في تعريف القارئ العربي بعزيز نيسين وأدبه، إلا أن بعضهم تعاملوا معه بمنطق تجاري بحت، من دون ترجمته بذمة وضمير، فجاءت بعض كتبه سيئة الترجمة، ونفّرت منه القارئ العربي. لا أجيد التركية لأحكم على هذه الترجمات، لكن قراءتي عن عزيز نيسين وأدبه فسّرت لي سر تفكّك بعض ترجمات رواياته وقصصه، فقد كان يستخدم اللهجات العامية المختلفة في تركيا، عندما كان يكتب عن بعض البيئات الشعبية المحلية، خصوصا الريفية منها، وهو ما كان يتطلّب مترجماً من نوع خاص، ينقل روح النص، ولا يترجمه ترجمة حرفية تنفّر القارئ منه. وربما زاد الطين بلّة أن أغلب الترجمات التي صدرت لعزيز نيسين لم تخضع لأي مراجعة أو تنسيق أو تنقيح، لأنها كانت دائماً اجتهاداً شخصياً من الناشرين والمترجمين، وخصوصاً أن سورية لا تعترف بشيء اسمه حقوق الملكية الفكرية، ربما في ظل شعار وحدة حرية اشتراكية الذي يملأ جميع الجدران، بما فيها جدران السجون. وبالنسبة للناشرين، هناك يعتبر عزيز نيسين لقطة، من حيث غزارة إنتاجه، وكونه يكتب قصصاً ساخرة، وهو فرع من الأدب، يعتبر الأكثر رواجاً لدى القارئ العربي، فضلاً عن أن عزيز نيسين يكتب عن المجتمع التركي طوال القرن العشرين، والذي يكاد يكون نسخة من المجتمعات العربية بكل أمراضه وعيوبه التي نقل الأتراك خلال الحكم العثماني إلينا كثيراً منها، قبل أن يتعافوا منها إلى حد كبير في العشرين عاماً الماضية، ولعل ذلك كان أبرز ما شدّني إلى عالم عزيز نيسين، عند قراءاتي الأولى بعض قصصه ورواياته، فلم أكن أتخيّل أنني سأجد في أدبه ذلك التشابه المذهل بين الأوضاع السلبية التي يسخر منها، على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحافية، بل وحتى الكروية، وبين أوضاعنا المزرية التي نعاني منها في مصر وسورية وأغلب البلاد العربية التي ابتليت بالحكم العثماني. ليست هذه إدانة للحكم العثماني، فهو أكبر من أن يختزل في سطور أو حتى في كتب، لكنها مجرد ملاحظة أراها مهمّة لكل من دخل إلى عالم عزيز نيسين السحري.
(8)
بمناسبة غزارة إنتاج عزيز نيسين، المرعبة في كمّها وكيفها، أود أن أقول للقارئ الكريم إنني أتشرّف بأنه عندما يسألني أحد في حوار صحافي، أو إيميل، أو لقاء عام، عن سر غزارتي في الإنتاج، أستشهد عادة بسيرة حياة عزيز نيسين، مع الفارق الرهيب في المستوى الذي أتمنى أن يساعدني الزمن على تقليصه، وربما لم أجد كاتباً في حياتي أتمكن من الاستشهاد به في أمور كثيرة في حياتي قدر عزيز نيسين. وربما لذلك أنصحك بقراءة سيرة حياته التي نشرت في جزئين، بترجمة محمد مولود فاقي. عندما قرأت مذكرات نيسين، فوجئت أنه يتبع، لإدارة حياته ووقته، طريقة أتبعها منذ عشت تجربة البطالة المتقطعة بعد مصادرة جريدة الدستور الأولى عام 98، وكان أصدقائي يصفونها بأنها خلطة سرية عجيبة تجمع بين العشوائية والتخطيط والعمل الجاد والفوضى، حيث كنت ألزم نفسي بكتابة خطة شهرية، لما يجب أن أقرأه وأكتبه كل شهر، ثم أحاسب نفسي في آخر الشهر عليه. عادة كنت أنفّذ ثلث ما خططت له، وأحياناً ربعه، لكن ذلك لم يكن ليحبطني أبداً، بل إنني، عندما كانت تجبرني الظروف على عدم تنفيذ عشره حتى، لم أتوقف أبداً عن عمل هذه الخطة الشهرية التي أحاسب نفسي عليها سنوياً. ومع مرور الوقت، اكتشفت أنها ساعدتني على زيادة إنتاجي وتنظيم وقتي، والاستفادة منه بشكل لم أكن أتخيّله، كانت خطة عشوائية بالنسبة لي، حاولت أن ألزم نفسي فيها باتّباع منهج نجيب محفوظ الصارم في الحياة، لكنني، عندما فشلت في اتّباعه، حوّلته إلى منهج خاص، يجمع بين العشوائية والتخطيط. وبعد سنوات من ذلك، فوجئت أن عزيز نيسين سبقني، من زمان، إلى تلك الخلطة التي مكّنته من أن يعيش حياة حافلة بالتجارب الإنسانية، ويترك خلفه إنجازاً صحافياً وأدبياً وفنياً عريضاً.
وقبل أن تتعجّلني وتسألني عن مقادير تلك الخلطة، دعني أحيلك إلى مقدمة الجزء الثاني من مذكرات عزيز نيسين، بعنوان “وهكذا سرنا”، حيث يحكي طريقته في إدارة حياته، قائلاً “كل ليلة يجب أن أدون الأعمال التي سأقوم بها يوم الغد على ورقة، إذا لم تكن كل ليلة، فلتكن كل ليلتين أو ثلاث. أكتب في أعلى الورقة أعمال الغد، وأضع خطاً تحتها، وبما أن يدي مفتوحة، فتستطيع أن تقول بأنني مسرف من جهة. ومن جهة أخرى، أتصرف بدقة، وتستطيع أن تقول إنني بخيل، وبما أنني هكذا، فأنا لم أتلف الأوراق المكتوب عليها أعمال الغد، وأجمعها على شكل قصاصات صغيرة، كما أنني أحتفظ بالأعمال التي سأقوم بها في شهر وسنة. وهكذا كنت أقوم بتخطيط يومي وشهري وسنوي على هذه القصاصات الصغيرة. قديماً كنت أمزّق هذه الأوراق وأرميها، ثم بدأت أنسى إتلافها وإلقاءها في سلّة المهملات، وبقيت مرمية في أحد الزوايا. وعندما وجدتها بعد سنين طويلة، رأيت فيها أشياء كثيرة جذبت انتباهي، وجدتها غريبة حقاً، لقد حظيت عباراتها بأهمية كبيرة عندي، وصارت لها قيمة تاريخية وأثرية رائعة، وجدت في هذه الكتابات نفسي.
وهكذا بدأت أحتفظ بتلك الأوراق اليومية والشهرية والسنوية، لم أعد أرميها، بل أخذت أجمعها ضمن ملف خاص، وعندما أعود إليها بين حين وآخر، أجد في تلك الكتابات أيامي الماضية والقادمة، فهي وثائق تربط ماضيَّ بحاضري ومستقبلي، أنظر إلى “الأعمال التي سأنفذها غداً” فلا أتذكّر، أكثرها أصبح منسيّاً، وبعض الأعمال التي لم تنفذ أيضاً بقيت على حالها، كنت أتركها إلى الغد، ثم إلى ما بعد الغد، وهكذا عندما أفكر بها أحس بحزن شديد. ستظل هذه الكتابات حاضرةً في ذهني، أحفظها للأيام المقبلة التي لن أكون فيها، الأيام المقبلة الخالية من وجودي، سأترك في هذه الأوراق المكتوبة ذكريات لحياتي. أصبحت مديوناً للغد وما بعد الغد وللأيام المقبلة الأخرى، ليس بسبب كسلي وإهمالي، بل من ثقل الأحمال التي فوق ظهري، وكثرة المسؤوليات والطلبات. إنه دَينٌ لا ينتهي، سأشعر به دائماً، فما معنى أن يظل الإنسان مديناً للأيام المقبلة؟ في هذه الحالة، يكون مرغماً على العيش، لكي يرد دينه الذي لا يُردّ أبداً، وسيزداد أكثر. في ذلك الصباح الذي لن أكون موجوداً فيه، سيجدون أوراقاً صغيرة، “الأعمال التي يجب أن أقوم بها” لم تنفذ كلها، الشيء الباقي مني هو أنا.. ملفات مليئة بالأوراق. أمامي الآن ملف بأعمال الغد، سأختار منه ورقة، وأقرأها لكم: “حلاقة.. فطور.. العناوين.. تنظيف طاولتي أو مكتبي.. سقاية الأزهار.. شراء دفتر طوابع لأحمد.. البريد.. جلب أكل للقطط.. كتب رفيق خالد.. أستلم نقوداً من كوفلو.. إعطاء قصة لمجلة أف بابا.. تصحيح رواية زوبك (عنوان واحدة من أجمل رواياته، تحوّلت إلى مسلسل سوري لعب بطولته دريد لحام)، كتابة مسرحية من فصل واحد”. كل غد أراه قريباً، لم أكن أعطي لهذه الأوراق أهمية، بحيث أنني لم أضع عليها تواريخ، فنحن لا نستطيع أن نعرف مسبقاً ونحن نعيش أي الأشياء التي تركناها تملك أهمية أو لا تمتلك. كل ورقة فيها عنوان أو ظرف أو ورقة ملاحظة أو حساب بقال تأخذ من القيمة والأهمية مع مرور الزمن”.
كل هذه السطور المليئة بالشجن والمرارة كتبها عزيز نيسين في بداية الجزء الثاني من سيرته الذاتية، ليبرر للقارئ لماذا تأخر في كتابة ونشر هذا الجزء، على الرغم من أنه أنهى الجزء الأول من سيرته في عام 1965، وخطط لكي يبدأ في الجزء الثاني مباشرة، لكنه نسيه سبع سنوات كاملة، بدأ بعدها كتابة الجزء الثاني من سيرته الذاتية، ليصدر بعد عشر سنوات من صدور الجزء الأول. والمثير للإعجاب أنه نسي ليس كسلاً أو إهمالاً، بل لأنه انشغل في كتابة عشرات الروايات والقصص وإصدار صحف ومجلات عديدة، فضلاً عن النفي والاعتقال وممارسة العمل السياسي السري والعلني، لكن سيرته الذاتية، بعد أن صدرت، وجدت من التقدير ما تستحقه، حتى أنها اختيرت على مستوى العالم ضمن أهم الكتب التي يجب أن يقرأها أي مهتم بالأدب التركي. أنظر كتاب دليل القارئ إلى الثقافة الجادة الذي ترجمه أحمد عمر شاهين، وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في منتصف التسعينات، والذي أشار إلى سيرة عزيز نيسين باسم طفل إسطنبول.
لا زال لديّ الكثير لأحدّثك به عن عزيز نيسين وأدبه، وهو حديث أتمنى أن يسعفني الوقت لإنجازه ذات يوم في كتابٍ، أؤدي فيه بعضاً ممّا أدين به لهذا الأديب الكبير، لأواصل ما سبق أن كتبته عنه في كتاب “في أحضان الكتب”، وفي أعداد مجلة “المعصرة” التي نشرت فيها بعضاً من قصصه النادرة التي كان قراء كثيرون يندهشون من تطابقها مع الواقع المصري، لكنني لا يمكن أن أختم حديثي، من دون أن أرشح لك بعضاً من أهم وأجمل ما كتبه الأديب الكبير، وترجمه إلى العربية، تحضرني في البداية روايته الأجمل “الطريق الوحيد” التي كانت أول ما قرأته له، وهي صادرة عن دار المدى العراقية. هناك أيضا رواية “سرنامه” الصادرة عن دار ورد، ومجموعة “الكرسي” التي ترجمها فيصل نور، وتضم عدداً من أجمل قصص عزيز نيسين التي صدرت بترجمات أقل تميّزاً في مجموعات أخرى، كما أن هناك مجموعتين رائعتين، صدرتا عن وزارة الثقافة السورية، عنوانهما “كيف قمنا بالثورة” و”غاز الشرف الأخضر”، فضلاً عن مجموعات متعاقبة، أصدرتها دار الطليعة الجديدة في سورية، من أهمها “صحوة الناس، المجانين الهاربون، مجنون على السطح، آلة سريعة العطب”. تريد المزيد؟ هناك المزيد لعزيز نيسين، لكن اقرأ هذه العناوين الأول، ثم سيجمعنا المزيد من الحديث عن عزيز نيسين يوماً ما. لكن، لا تنسى إذا قرأت له ما يمتعك أن تدعو له، و”بالمرة تدعي لي”. اللّهمّ استجب.
العربي الجديد