إياد الجعفريصفحات المستقبل

للبغدادي:عليك بالأسد/ إياد الجعفري

 

 

أيهما النظرية الأكثر اتساقاً مع تطورات المشهد في سوريا: الخصوم يُفنون بعضهم؟، أم تراكم الخبرات يؤدي لانتصار نوعي لأحد المتحاربين؟

يندر أولئك الذين يقرؤون المشهد السوري وفق النظرية الثانية. فمعظم المراقبين يرون أن ما يحدث في سوريا هو استنزاف، ليس فقط لشعبها وبُناها ومواردها، بل أيضاً للخصوم المتصارعين على تُرابها، داخلياً، وإقليمياً، وحتى ربما دولياً.

القراءة الأخيرة تروق لمعظم المراقبين الأمريكيين. ويبدو أنها تروق للرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه، كما ألمح أكثر من مرة، بنفسه، أو على لسان أحد معاونيه المقربين.

لكن في مقابل هذه النظرية الأكثر شيوعاً في قراءة المشهد السوري، يبدو أن معظم المتصارعين يؤمنون بنظرية أخرى. أو على الأقل، يراهنون عليها.

تنطبق تلك المعادلة الشهيرة في الأدبيات الماركسية “التراكم الكمي يؤدي إلى تغير نوعي” على حصيلة تجارب المتصارعين في الحروب.

نظرياً، تؤدي الحروب إلى استنزاف المتحاربين، لكن عملياً، لا ينطبق الاستنزاف على جميع الأطراف المتصارعة، أو، ينطبق على بعضها أكثر من بعضها الآخر، ويكون المعيار هنا هو الاحتياطي الديمغرافي الذي يمكن لأحد الأطراف الاستناد إليه.

لم تُثبت أية حرب من حروب العصابات أن طول أمدّ الحرب يخرج بجميع الأطراف مُنهكاً بحيث يكون الجميع خاسراً. تجارب هذا النوع من الحروب تؤكد، في معظمها، أن أحد الأطراف يكون الأكثر قدرةً على الصمود حتى النهاية، ليكون الطرف الأكثر استفادةً من حصيلة المشهد في نهاية المطاف.

بالنسبة للتنظيمات غير الرسمية التي تتقاتل على بقعة أرضٍ ما، فإن طول أمد الحرب يزيد من خبراتها، فتقلل مع الزمن من العثرات والأخطاء التي وقعت فيها سابقاً، فتصبح أشد وأكثر قدرة على الاستمرار والتفوق، خاصة إذا حظيت باحتياطي ديمغرافي يُعينها على تعويض خسائرها البشرية بالصورة المطلوبة.

في حالات الاستنزاف المتبادل في الحروب والصراعات الأهلية، كلما طالت الحرب، كلما كان الطرف الأكثر استنزافاً هو الطرف الأضعف ديمغرافياً، بمعنى آخر، هو الأقل قدرة على تأمين البديل عن خسائره البشرية، بأريحية.

في لبنان، وخلال 15 سنة من الحرب الأهلية راهنت أطراف عديدة إقليمية ودولية على استنزاف كل الأطراف، لكن المشهد في نهاية المطاف انتهى لصالح حزب الله باعتباره أكبر الرابحين. فقد خرج الأخير كأقوى فصيل، تسيطر حليفته الإقليمية، سوريا، على المشهد السياسي والأمني اللبناني، فيما يحتكر هو الصراع مع إسرائيل في الجنوب. سنوات الحرب اللبنانية غيرت موقع الشيعة في توازنات القوى الداخلية. وإن كانت إسرائيل تخلصت من تواجد “فتح” في لبنان، فهي حصلت بالمقابل على عدوٍ أكثر حرفيةً وقدرةً على استنزاف الخصم الإسرائيلي في جبهة الجنوب. وهو ما أثبتته السنوات التي تلت نهاية الحرب الأهلية اللبنانية.

في أفغانستان، أدى الصراع الدامي بين الفصائل الأفغانية التي أخرجت السوفييت، إلى انتصار طالبان وتسيدها للمشهد الأفغاني في التسعينات.

أمثلة أخرى كثيرة لسنا في وارد ذكرها الآن، تُثبت أن الحروب والصراعات الأهلية لا تؤدي بالضرورة إلى خسارة كل الأطراف، بل هي تؤدي إلى انتصار أحدها، أو على الأقل، تكون الحصيلة أن أحد الأطراف يحقق القدر الأكبر من المكاسب على حساب البقية.

في سوريا، لا يبدو أن المشهد سيختلف كثيراً عن لبنان وأفغانستان. ففي الوقت الذي تراهن فيه بعض الأطراف الإقليمية والدولية على استنزاف المتصارعين في سوريا حتى الرمق الأخير، يبدو أن طرفاً من المتصارعين يكتسب خبرات أكبر، ويتمدد بصورة تُنبئ بخيبة آمال للكثيرين.

في شمال شرق سوريا، وحتى في جنوبها ووسطها، يبدو أن تنظيم “الدولة الإسلامية” يستفيد من تراكم خبرات قياداته ومسؤوليه. فهم ليسوا أبناء اليوم. معظمهم خاض تجارب حرب العصابات الدامية في العراق ضد الأمريكيين، وضد الحكومة المركزية في بغداد في النصف الثاني من العقد السابق.

وفي شمال سوريا ووسطها، وجنوبها، يفعل تنظيم “جبهة النُصرة” الأمر ذاته، فقياداته أيضاً هي نتاج تجارب سابقة.

الانتصارات المفاجئة لتنظيم “الدولة الإسلامية” التي أذهلت الجميع في مطلع الصيف الماضي، هي تغير نوعي نتاج تراكم كمي كبير للخبرات. والانتصارات الأخيرة لجبهة النصرة في إدلب، ضد نظام الأسد، أيضاً هي كذلك.

في الصراع الدائر في سوريا، لا بدّ أن الاستنزاف يفعل فعله، لكن أثر الاستنزاف يتفاوت بين من يملك احتياطياً ديمغرافياً كبيراً، وبين ذلك الذي يُوصف بـ “الأقلية”.

نظام بشار الأسد يعاني اليوم بشدة من عجزه في تأمين البديل عن خسائره البشرية. ويبدو أنه لولا الرفد البشري الآتي إليه من العراق وإيران، ومن لبنان، لكان السقوط مصيره الأكيد. لكن حتى في حالة الرفد الإقليمي الذي يحظى به الأسد، يبدو أن الاستنزاف سيكون مؤلماً، ففي نهاية المطاف، أنصار الأسد أقلية في المنطقة برمتها، وأعداؤهم كُثر، في العراق وأيضاً في لبنان.

لا يبدو أن جميع الأطراف سيُفنون بعضهم في سوريا. يبدو أن أطرافاً ستفنى نتيجة الاستنزاف البشري الذي ستعجز عن تلافيه. فيما ستتمدد أطراف أخرى إلى لحظة لا بدّ فيها من تدخل خارجي يغير موازين القوى.

ما يزال الوقت مبكراً على حصول التدخل المُشار إليه، لكن حينما تصل طلائع “الدولة الإسلامية” إلى أعتاب دمشق، لا يمكن أن يبقى الغرب متفرجاً، لأن جبهة إسرائيل ستصبح في مرمى الحجر. حينها قد تتغير المعادلات، وحينها سيُقر الأمريكيون بأن نظريتهم بفناء “المتطرفين” بأيدي بعضهم في سوريا، لم تكن دقيقة.

ربما حتى ذلك الوقت يكون الغرب قد أسس الجيش الذي يتحدث عنه من المعارضة “المعتدلة”، ويكون هو حصان طروادة الغربي لإنقاذ جنوب سوريا المُلاصق لإسرائيل من سيطرة “المتطرفين”.

حتى ذلك الوقت، لا بأس، غربياً، في أن يُستنزف نظام الأسد وأنصاره في سوريا، ربما، حتى الفناء، السياسي، على الأقل. فالتدخل الغربي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” يرسم الحدود شمالاً وشرقاً، لكنه يتركها سائبة غرباً وجنوباً، وكأنه يقول للبغدادي، عليك بالأسد، وحلفائه من الشيعة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى