للبيوت أسرارها/ رشا عمران
لطالما تخيلت أن للبيوت التي نسكنها ذاكرة قوية، وروحاً شفّافة لا يراها إلا الذين يشكل البيت لهم مكانا آمنا للنجاة من القلق. أنا من هؤلاء “البيتوتيّين”. وعلى عكس ما يبدو في الظاهر، إنهم أكثر الناس قلقا. أعرف هذا من نفسي، أنا أنتمي إلى البشر الذين يمتلكون في دواخلهم مساحة كبيرة للأسئلة التي لم يجدوا لها إجابات شافية، عن الخلق والزمن والوجود والكينونة البشرية والموت والحياة والحب والوطن، إلى آخر هذه الأسئلة التي تجعل من النفس البشرية تعيش وسط عاصفة، أو كما قال المتنبي “كأن الريح تحتي”، هذا القلق لم تداوِه الكتابة، الكتابة معه تشبه دواءً مسكّنا للألم، ما أن ينتهي مفعولها حتى يصبح القلق أبهى وأقوى، وتدخل معه الكتابة في دائرة الأسئلة.
هنا يصبح البيت المنجي الوحيد، البيت بمعناه الحقيقي المادي، لا بالمعنى المجازي، البيت بوصفه جدرانا وغرفا وتفاصيل صغيرة وكبيرة. بدلت بيوتا عديدة في حياتي، ما أن أستقر في بيت وأرتبه كما أشتهي، حتى ينتهي عقد إيجاره وأنتقل إلى آخر وأعيد عملية الاستقرار. وهكذا، لم أمتلك بيتا يوما، لم أمتلك شيئا في حقيقة الأمر سوى كتب، ولوحات مهداة من أصدقاء فنانين، هي كل ثروتي في الحياة. ألّا أمتلك بيتا خاصا ودائما يعني أن تتوزع تفاصيل حياتي في أمكنةٍ عديدة، يعني أن أنقل ذاكرتي من مكان إلى آخر. يعني أيضا ألّا تهدأ كتلة القلق التي بي إلا فترات قليلة، هي فترة الاستقرار في بيت ما، قبل الانتقال إلى غيره. في هذه الفترة القصيرة من الاستقرار، دائما كان بيتي يشبهني، ويحمل صفاتي.
في كل البيوت التي استأجرتها وفرشتها، كان هناك فوضى من الألوان المبهجة، تصدرها اللوحات والمنحوتات وألوان الستائر والفرش. كان هناك أيضا مساحات كبيرة في الجدران للكتب، الكتب التي تنتقل من مكانها لتسبب الفوضى في كل أنحاء البيت، كما لو أنها في انتظار زائرٍ ما ليتفقّدها. في الحقيقة، كان بيتي يوحي دائما أنه بانتظار زوّار يأتون ليصبحوا جزءا من المشهد العام للبيت. فوضى الألوان في بيتي كانت معاكسة لمظهري الشخصي. أميل إلى الكلاسيكية في لباسي، وللألوان العاتمة الواحدة. الأسود لون لباسي المفضل، علاقتي بألوان البيت أظهرت الشخصية الأخرى التي بي، شخصية فوضوية ومرحة، على عكس ما أبدو في حياتي اليومية. الحذر الذي أبدو به خارج البيت، ويفرض نفسه على شكلي ولباسي، كان يختفي تماما ما أن أعود إلى بيتي، وأجلس وسط أشيائي الخاصة التي اخترتها بنفسي، ووضعتها في أمكنتها بنفسي.
ثمّة حوارات دائمة تحدث بيني وبين تفاصيل البيت الذي أسكنه. ليس فقط مع أشيائي الخاصة التي أنقلها من مكان إلى آخر، بل حتى مع الجدران والخطوط التي تفصل بين مكان وآخر في البيت. الخطوط والجدران والأرض والسقف والغرف هي بمثابة العائلة، الحضن الذي أرتمي فيه حين أحتاج إلى الحضن، لا شيء ولا أحد مثل بيوتنا يعرف أسرارنا ويحتفظ بها، لتصبح كما لو أنها سرّه الشخصي. تعرّفنا البيوت بكل حالاتنا. تحفظ شكل أجسادنا وأخطاءها، تعرف الآهات التي نطلقها في أوقاتٍ مختلفة، تعرف أوقات حزننا وفرحنا وقهرنا، تحضن غضبنا وجبروتنا وضعفنا، تتبلل بدموعنا، وتتوسع أبوابها ونوافذها لضحكاتنا. لهذا تتشقق جدران البيوت مع الزمن، لأنها تنوء بحمل ذاكرة قاطنيها.
لا أحد منا يلقي بالا لحزن البيوت حين يرحل ساكنوها. لا أحد يلقي بالا لأنينها، وهي تسقط بفعل صاروخ مدمر. هي لا تبكي نفسها. هي تبكي تلك الذاكرة التي سفحت وأصبحت مستباحة. هل لهذا لا أحب السكن في البيوت المفروشة؟ توحي لي البيوت المفروشة بالعبور، بأن ذاكرة البيت عني ستختلط سريعا بذاكرته عن آخرين كثيرين، لبثوا قليلا ورحلوا، تشبه ذاكرة الحياة عن البشر، كثيرين وعابرين. لن تستوعب ذاكرة الحياة تفاصيل الجميع. لهذا لا يبقى فيها إلا قلة نادرة، لا تصلح البيوت المفروشة للقلقين الباحثين عن الاستقرار، تصلح ربما للثابتين الذين لا يطرحون أسئلة كثيرة ربما.
العربي الجديد