لماذا “ألف ليلة وليلة” ليست رواية؟/ أمجد ناصر
دار حديث بيني وبين كتَّاب أصدقاء حول الرواية العربية: تاريخاً وواقعاً ومستوى فنياً، على صفحتي في “فيسبوك”. وحديثٌ كهذا لا بدَّ أن يحكمه الحيِّز الذي دار فيه، وهو أقرب إلى الدردشة، وما يجود به الخاطر في اللحظة والأوان. على الرغم من ذلك، فقد حرَّك الحديث – النقاش جماراً قديمة، يبدو أنها لم تنطفئ. فلم نسلّم، كما يتضح من سؤال طرحه الكاتب المصري الصديق أحمد عبد اللطيف، بهزيمتنا العلمية والمعرفية أمام الغرب. هناك مقاومة، وهناك تململٌ حزينٌ للهوية. يسأل أحمد عبد اللطيف، وهو روائي ومترجم (من الإسبانية) لا تقل ترجمته أهمية عن عمله الروائي: لماذا لا نعتبر “ألف ليلة وليلة” رواية؟ لعل هذا السؤال جاء بعد حديثي عن “معطف سرفاتنيس” الذي خرجت منه الرواية الأوروبية الحديثة. هل تختلف رائعة سرفانتيس “دون كيخوتة” كثيراً عن “ألف ليلة وليلة”، من حيث تناسل الحكايات، وما يشبه الطابع الشفوي الذي تتسم به، فضلا عن عوالم الفروسية والمغامرة والنبلاء الذي يتحرّك فيه هذا العمل الحكائي العظيم.
ليس المقصود، هنا، المقارنة بين “الليالي العربية” و”دون كيخوتة”، فلهذا مقام آخر لا تفيه حقه مقالة سريعة وسيَّارة مثل هذه السطور، ولست، أصلاً، من أهل هذا “الاختصاص” لأتصدى لذلك. المهم هو السؤال: ما الذي يمنع “الليالي العربية” من أن تعتبر روايةً، وليست حكايات، ما دامت “شروط” الرواية تتوفر فيها، ومنها مثلاً: الحكاية الإطارية، والشخصيات الأساسية، والتطوّر الذي يطرأ على هذه الشخصيات، فلا ينتهي بها الحال كما بدأت.. فضلاً عن معجزة “الليالي” التي لا نظير لها في القص العالمي: التناسل الحكائي المنظوم في إطار جامع، بل قل هذه المتاهة من الحكايات التي تقودنا في أرجائها شهرزاد مبهوري الأنفاس، من دون أن نبرح عالم “الرواية” إلى غيرها، كما يفعل العمل الشفاهي الذي لا تقوده، غالباً، غاية واحدة، وينتظمه تسلسل عارف بمادته.
دعونا نبدأ بالقول إن وعينا الراهن بما هي عليه “الليالي” من إعجاز حكائي وبنية “روائية” حديث العهد. لقد تلقفنا هذا العمل العملاق من خلال الآخر. هو الذي أزاح عنه الغبار، وكشف معدنه الثاوي. متى كانت “الليالي” محسوبةً على مدونتنا النثرية، أو السردية، العربية؟ متى اعتبر هذا العمل كنزاً حكائياً لا مثيل له؟ هذا أمر حديث العهد. قد لا يتجاوز قرنين، كان العرب خلالهما في غفوةٍ معرفيةٍ شبه تامة. ليس هناك نشاط أدبي يعتد به سوى النسج على منوال القديم (في الشعر خصوصاً). لم تكن القراءة والكتابة ذات قاعدة واسعة، ولعلها اقتصرت على نخب دينية واقتصادية وإدارية محدودة للغاية، فالطباعة نفسها لم تكن قد وجدت باعتبارها صناعة، ولم تخرج من إطار دوائر السلطنة الحكومية، وبعض الأديرة في لبنان وسورية، وصولاً إلى حملة نابليون وحضور المطبعة في ركاب غزوته.. والطريف أنه أخذها معه بعد فشل هذه الغزوة. في هذه الفترة التي كان الغرب “يكتشف” فيها “ألف ليلة وليلة” ويجعلها، في ترجماتٍ أوروبيةٍ عديدة، جزءا من ذخيرة حكائية أثرت في تطوّر روايته، كان عدد الذين يقرأون ويكتبون في العالم العربي أندر من الكبريت الأحمر.
لكن ليس هذا سبب عدم اعتبار “الليالي” رواية، فالأرجح أن قصد الكتابة ووعيها بذاتها سببان أسياسيان في تطور النوع نفسه، وهذا ما لا تلحظه “الليالي”. أي لم تعتبر نفسها جنساً كتابياً له تسمية تؤسس نوعاً. ودعونا نلاحظ أن اسم النوع نفسه: رواية، لم يكن معروفاً في العربية. إذ تقترن هذه الكلمة بالشعر والحديث النبوي، أكثر من اقترانها بالسرد، بل لا تقترن به. فمن يروي هو الذي ينقل، بلا زيادة أو نقصان، ما قاله غيره، سواء كان حديثاً نبوياً، أم شعراً. لا ذات في الرواية، لا ابتكار. وإنْ حصل، بطُلت روايته وفسدت. كانت لدينا أسماء أخرى للقص والسرد الحكائي، ليس من بينها: الرواية. قد يكون “القصة” اسماً شائعاً في مدونات العصر العباسي، لكننا لا نقع في تراثنا على تماثل للقص بالرواية. ليس وعي الجنس بذاته سبباً وحيداً لجعل “ألف ليلة وليلة” “رواية”.. بل غياب المؤلف. أحسب أن هذا ما يبعدها عن معنى “التأليف”، فهذا يقوم به شخصٌ معينٌ باسمه. وليس لليالي، كما نعرف، مؤلف يرجع إليه. لا بدّ أن هناك أسباباً موضوعية محضة أيضاً حالت دون ولادة هذا النوع الأدبي، كما نعرفه الآن.
العربي الجديد