لماذا تآكلت جبهات محيط دمشق؟/ صبر درويش
تسعى أغلب البلدات والمدن في محيط العاصمة دمشق، التي تقع تحت سيطرة قوى المعارضة، إلى عقد هدنة مع قوات النظام، يتطلع من خلالها الطرفان إلى وقف إطلاق النار، والتفاوض على مجموعة من البنود التي تحقق مكتسبات لكلا الطرفين، كإطلاق سراح المعتقلين والسماح بعودة النازحين إلى بيوتهم، وفك الحصار عن المدن والسماح بإدخال المواد الغذائية والإغاثية، بينما يتم في المقابل إخلاء هذه المدن وبشكل جزئي من المظاهر المسلحة، وإخراج كافة الأسلحة المتوسطة والثقيلة منها.
قد لا يثير الخبر أعلاه أياً من التساؤلات إذا ما أخذ على بداهته، واعتبر شيئاً عارضاً في سياق الصراع الدائر على الأراضي السورية، بيد أن المسألة ليست بهذه البساطة. إذا ما أردنا إخضاع ظاهرة “عقد الهدنات” الدارجة اليوم للتحليل السياسي سنكتشف أنها مؤشر مهم على “ضعضعة” جبهات محيط العاصمة دمشق وبدء تفككها.
اعتمدت قوات النظام منذ البداية على مجموعة استراتيجيات واضحة وبسيطة في مواجهة تمدد قوات المعارضة وسيطرتها على محيط العاصمة؛ في البداية، يتم إخلاء هذه المدن من كافة القوات التابعة للنظام، ومن ثم يتم ضرب حصار على محيطها، وبعدها تبدأ الأسلحة الثقيلة بقصف المدن والأحياء السكنية.
وفي هذا السياق، أثبتت سياسة الحصار أنها الأقوى من بين كل الأسلحة التي يمتلكها النظام، إذ عبر هذا السلاح تم تركيع قوى الثورة من المدنيين، وإجبارها على تقديم مجموعة من التنازلات المريرة والتي ستكون ضريبتها كما دلالاتها باهظة على مسار الثورة.
منذ نهاية العام 2012، تخضع المدن المحيطة بدمشق إلى حصار خانق، ورغم ذلك تمكن من تبقى من سكان في هذه المدن من الثبات والصمود رغم كل قسوة الحياة اليومية التي مرت عليهم. أشهر طويلة وأغلب مدن جنوب وشرق العاصمة دمشق من دون كهرباء أو ماء أو اتصالات، ورغم ذلك صمد السكان الذين يعتبرون الحاضنة الشعبية للثورة. هذه الحاضنة تم إذلالها، ليس فقط من قبل قوات النظام، بل أيضاً من قبل المعارضة السياسية كما التشكيلات العسكرية.
حتى وقت قريب، كان أغلب ما نسمعه من تصريحات لرجالات المعارضة السورية أن الأولوية اليوم هي لدعم السلاح وكتائب الجيش الحر، على اعتبار أن ذلك يندرج في سياق سيرورة الصراع الدائر الذي حتم التركيز على توفير مستلزمات الجناح العسكري للثورة.
لم تدرك المعارضة أن عدم دعم الحاضنة الشعبية للثورة سيكلف الحراك الثوري ضريبة باهظة، كما أنها لم تدرك، أن المقاتلين يستمدون صمودهم كما شرعيتهم من حاضنتهم الشعبية.
أغفلت قوى المعارضة هذه المعادلة البسيطة والتي تقول أن الحاضنة الشعبية للثورة عندما تصاب بالإرهاق أو الخذلان فإن الجبهات بالكامل ستبدأ بالتآكل التدريجي ما يعني دخول الصراع في أزمة عميقة يصبح من الصعب الخروج منها.
على صعيد التشكيلات العسكرية، اكتشف سكان المدن “المحررة” بالملموس أنهم أعجز من أن يتمكنوا من إدخال سلة غذائية واحدة إلى هذه المدن فما بالك في فك الحصار عنها.
حوالي السنة وأغلب جبهات محيط العاصمة تنعم بالهدوء، ليس الهدوء من القصف الذي يدفع المدنيين ضريبته بالكامل، بل الهدوء على جبهات القتال، حيث لم يسمع عن عمليات عسكرية بادر الجيش الحر إليها.
منذ الأشهر الأولى لتكون كتائب وألوية المعارضة، والمدنيون يهتفون لهم في المظاهرات، باعتبارهم المخلص لهم من معاناتهم والمنقذ لهم من هذا الدمار، وفي المقابل اكتفت هذه التشكيلات بالخطب النارية والبيانات الإنشائية، التي أكثرت من الحديث عن ساعة الحسم التي لم يرها السوريون يوماً، كما كثر الإعلان عن تشكيل جيوش جرارة بأسماء طنانة، كانت عاجزة عن الحفاظ على مواقعها في ظل زحف قوات النظام.
تفككت الجبهات واحدةً تلو الأخرى، وخسرت “جيوش” المعارضة أهم مواقعها، بينما “القادة” العسكريون يتنقلون بين الأردن واسطنبول ويعودون سالمين غانمين إلى مقراتهم والتي لم ينقصها شيء رغم الحصار.
كل هذه العوامل ساهمت في تشكيل ملامح اللحظة الراهنة، حيث بات المدنيون على استعداد لعقد هدنة مع عدوهم وقاتل أطفالهم وهادم بيوتهم، وباتوا أكثر إدراكاً إلى ضرورة أن يستعيدوا سيطرتهم على مصيرهم، بعدما فرض عليهم قادة التشكيلات العسكرية المعارضة مالا يشتهون.
عندما قررت بعض التشكيلات العسكرية المعارضة دخول إحدى مدن ريف دمشق، وافق السكان بشرط أن يكون دخولهم للعبور إلى دمشق؛ ودخل المقاتلون، وظلوا لأشهر طويلة في انتظار ساعة الحسم، وكانت قد هدمت المدينة في هذه الأثناء ونهبت بيوتها وشرد ساكنوها. وعندما حان موعد التقدم، تقدم “الثوار” باتجاه بلدة مجاورة، وعقدت صفقة مع أهالي البلدة شبيهة بتلك التي عقدت مع سكان جارتهم، وجلس “الثوار” في انتظار أن تحين ساعة الحسم، بيد أنها وعلى الرغم من مرور أشهر على تحويل البلدة لجبهة قتال لم تحن تلك الساعة بعد.
لا أحد اليوم يستطيع الإجابة عن سؤال يؤرق كل من هدم بيته: لماذا دخل “الثوار” حي جوبر وهو الذي كان يحتضن المئات من عوائل الغوطة الشرقية؟ والسؤال هو ذاته ينطبق على مخيم اليرموك في المنطقة الجنوبية، والذي لا أحد اليوم يذكر كيف ومن قرر تحويله إلى خط جبهة قتال، والسؤال الأكثر مرارة: لماذا تقدمتم إلى هذه النقاط وتوقفتم بالكامل؟
بسبب كل ذلك، يشعر المدنيون بالخذلان، ويسعون لاستعادة زمام المبادرة، وإذا كانت الهدنة تعني تقديم سلسلة من التنازلات المريرة، فلا بأس بذلك طالما أنها ستساهم، أو يؤمل منها أن تساهم في أن يلتقط المدنيون أنفاسهم، وتعيد الحاضنة الشعبية لملمة جراحها للاستعداد لحلقة جديدة من الصراع، هي ولا شيء سواها من يحدد ويقرر موعد حسمها.
المدن