صفحات العالم

لماذا تختلف سورية عن غيرها من البلدان العربية؟


وسيم نصر*

ترجمة: مدني قصري

تبين ردود الفعل الدولية على الأحداث الجارية في سورية مرة أخرى الدور الرئيسي الذي تلعبه دمشق على رقعة الشطرنج العالمية. فعلى عكس العراق وليبيا، وحسب ما ورد على لسان وزير خارجية سورية؛ وليد المعلم، في خطابه يوم 22 حزيران (يونيو)، فإن “سورية لا تملك بترولاً، ولذلك لن يأتي إليها الغربيون”.

وما يزال هذا النوع من الخطاب يلقى فعلياً صدى مشجعاً في العالم العربي، بالنظر إلى الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبت في العراق، وبالنظر أيضاً إلى الدعم اللامشروط الممنوح لمختلف المستبدين الشركاء في “الحرب ضد الإرهاب”. ومن المؤكد أن قول وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون “إن الأسد ليس ضرورياً”، وتأكيد الرئيس ساركوزي من ناحيته أن “الدكتاتوريين الذين يسفكون الدماء” لن يظلوا دون عقاب، لن يغيرا شيئا من واقع القمع المتواصل. فالأسد ما يزال يتلقى الدعم والمساندة من الجامعة العربية نفسها، وقد استقبل الأمين العام الجديد نبيل العربي مؤخراً.

ولماذا أيضا، رغم سقوط 1300 قتيل، وأكثر من 14.000 معتقل، و20.000 لاجئ، ما يزال الأسد في رأي الغرب متحدثا جديرا بالثقة؟ ما الذي يفسر حذر المجتمع الدولي إزاء دمشق -باستثناء زيارة السفيرين الأميركي والفرنسي إلى دمشق التي لم تحل دون استمرار القمع في باقي البلاد، والعقوبات بلا طائل، علماً أن النظام يتأقلم مع العقوبات كافة منذ ثلاثين عاما- مقارنة بردود الفعل التي تثيرها الأحداث، وإن اختلفت، التي هزت مصر، وتونس، وليبيا؟ قد يكون هذا دليلاً، بشكل من الأشكال، على أن النظام البعثي كان “على حق” على طول الخط، في علاقاته مع الغرب بوجه عام، ومع الولايات المتحدة الأميركية بوجه خاص.

لقد لعب الأسد الأب “بيسمارك الشرق الأوسط”، دوراً إقليمياً لسورية، باحتلاله لبنان في العام 1976، حدث هذا دون لعبة الضوء الأخضر الإسرائيلي، ومن دون مباركة أميركية. وقد احتلت سورية بلد الأرز على مدى ثلاثين عاماً من أجل “احتواء فوضى لبنان”. ولا يجب أن ننسى أن دور دمشق سوف يصبح بلا معنى إن تم القضاء على صانعي هذه الفوضى، أمثال منظمة التحرير الفلسطينية -في زمن تلك الفوضى- أو حزب الله حالياً! وفي ذلك ما يفسر المساعدة السورية لهذه المنظمات، ولعبتها المزدوجة. كانت “المواجهة” بسيطة: فما دامت دمشق تحافظ على مستوى من العنف المقبول إزاء إسرائيل، فإنها تكون طليقة اليدين في لبنان. وقد وصل التعاون بين سورية والولايات المتحدة الأميركية إلى أوجه، بمشاركة دمشق الفعالة في عملية “عاصفة الصحراء”. وظل الاتفاق الضمني للعام 1976 ساريا تقريبا حتى العام 2003، حين تغيرت الأمور مع تدخل الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان في العام 2001، وتدخلها الثاني في العراق.

كانت هذه العمليات، من وجهة نظر دمشق، لا أكثر ولا أقل من عمليات تغيير في النظام. وقد تفاعل النظام السوري، بشكل طبيعي، بتأكيد قدرته على الإيذاء، بهدف استعادة دوره الإقليمي في نظر واشنطن. وبعد أن فقدت الورقة اللبنانية أهميتها مع انسحاب إسرائيل في العام 2000، جاء دور العراق -الذي أصبح هو نفسه فريسة للحرب الأهلية- لكي يقوم بتأمين “المسرح المثالي” الذي تتحمل فيه دمشق دور “رجل الإطفاء المهووس بإشعال النيران”. ورغم التصريحات الرسمية العديدة التي تؤكد أن دمشق سوف تسعى إلى تحقيق الاستقرار في العراق، صارت الحدود الغربية للعراق أكثر اختراقاً.

كان بشار الأسد -الذي وصل إلى السلطة في العام 2000 بعد وفاة والده- يساند بعض الأطراف العراقية في كفاحها ضد الأميركيين، حتى يضع سورية، ضمنيا، على رقعة الشطرنج العراقية. وفي الوقت نفسه، يمنع الآلة العسكرية الأميركية -المنشغلة بالفوضى العراقية، وبمحاربتها للإرهاب في أفغانستان- من الانقلاب ضد سورية، باستثناء التدخل الحدودي يوم 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2008. ومن المفارقات أن دمشق قد نجحت في أن يكون لها في الوقت نفسه دور في الحرب على الإرهاب، وهو ما أدى بها إلى تعاون وثيق مع المصالح الاستخباراتية الغربية بوجه عام، والمصالح الفرنسية والأميركية بوجه خاص.

لا بدّ أن ندرك أن ما نجح فيه حافظ الأسد في سورية هو شيء ملحوظ. فمن ضابط في القوات الجوية السورية، قادم من أقلية عاشت طويلاً تحت القمع، وفي خدمة الأغلبية السنية، استطاع أن يفرض هيمنته المطلقة على البلاد، وأن يترك الرئاسة لابنه من بعده. وعلى هذا النحو، انتقل العلويون من وضع الأقلية الفقيرة الذين لا يملكون أي دلالة سياسية على رقعة الشطرنج الإقليمية -حيث لم يعترف بانتمائهم إلى الأمة الإسلامية، الفرعان الكبيران: السنة والشيعة- إلى وضع الأسياد أصحاب السلطة المطلقة على سورية، والفاعلين الحتميين في السياسة الإقليمية، مجسدين في الوقت نفسه حلم الوحدة العربية الذي ظل حكراً على الأغلبية السنية.

لا شك أن عائلة الأسد، من الأب إلى الابن، قد أنجزت عملا طويل النفس، حيث استطاعت أن تُحكم قبضتها على البلاد، وأن تكمم أصوات الأغلبية السنية. أما الفرق بين حافظ الأسد وبشار، فيكمن في النهاية في كون هذا الأخير قد وجد نفسه على رأس بلد مغلق ومكبل على يد فريق عمل مدرب أحسن تدريب. لكن الابن وضع لبنته في بناء الصرح، بما أنجزه من إصلاحات اقتصادية أدت إلى خلق طبقة متوسطة يدعمها النظام نفسه. وقد وجد الكثير من السنة أنفسهم ضمن هذه الطبقة، مستفيدين بذلك من تسهيلات الدولة ودعمها، ومستفيدين أيضا من الانفتاح الذي حققه الاقتصاد السوري في عهد الأسد الابن، حتى وإن جاء هذا الانفتاح متأخرا. وعلى هذا النحو، ولد نموذج من “المتعاطفين” مع النظام، وهم الفئة التي لم يكن النظام في غنى عنها، بالتأكيد.

في النهاية، نرى أن شكوك المجتمع الدولي لا تنصب على فظاعة النظام، ولا على طبيعة ممارسات القمع تجاه السوريين، بل على ما يمكن أن يحققه عمل سياسي ودبلوماسي يؤدي في النهاية إلى تغيير السلطة. وسيكون هذا التغيير، بالتأكيد، في صالح الأغلبية السنية. ومن المؤكد أن النظام لا يمثل أنموذجا للتسامح، ولكن، من يضمن أن الذين سيأتون فيما بعدُ، بعد أربعة عقود من القمع، سوف يكونون متسامحين؟

إن الصراع الإسرائيلي-العربي المهيمن على عقول اللاعبين كافة، وموقف سورية ما بعد الأسد إزاء إسرائيل، أمر يثير القلق والانشغال. وما هو مؤكد أن بإمكان النظام الحالي أن يضمن استمرار الوضع الراهن إزاء الدولة العبرية، من دون أي استعداد لتحقيق السلام مع إسرائيل. وعلى الجانب الإسرائيلي، كان شاؤول موفاز الذي يعمل على رأس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست قد أعلن أنه يفضل أن تصل الأغلبية السنية إلى السلطة في سورية، وأن مثل هذا التحول سيكون مفيداً لجهود السلام، “لأن السنة أكثر اعتدالا.. وهذا سيفتح إمكانات جديدة للمفاوضات”. هذا فيما يلتقي ممثلون عن المعارضة في دمشق بمبادرة من الأسد، وفي ذلك مؤشر على مرونة نظام يدرك أن ساعة التغيير قد دقت، أو يبحث عن شرعية جديدة باتت مفقودة أمام ما يشهده الشارع من احتجاجات.

لعل الرياح تجري بما لا تشتهيه سفن النظام البعثي في دمشق، ولعل مبادرات النظام السوري جاءت متأخرة. فالمثل يقول: “صانع السمّ ذائقه لا محالة!”. ولعل التاريح شاء أن ينصف الشعب السوري، ولعل الوقت قد حان لكي يدفع الأسد الثمن. ولكن: أي ثمن سيدفعه السوريون بطوائفهم كافة، وأي ثمن ستدفعه منطقة أرهقتها الحروب التي تتواصل على حساب استقرار الشعوب؟

*باحث في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (باريس)

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Pourquoi la Syrie est-elle différente?

(لوموند) 21/07/2011

كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى